القمم العربية لولا القذافي لكانت مملة وثقيلة على القلب، فحضوره الطاغي و”الكاريزما” التي يتمتع بها برغم تقدمه في السن، والذي يتمثل في قسمات وجهه المتجعد، يجعل العرب ينشدّون إلى شاشات التلفزة لمتابعة مناظر من القمة، علهم يسمعون بعضاً من تعليقاته أو أفكاره التي غالباً ما تأتي بجديد، فهو “رائد” التجديد في العالم العربي، ولو أنه لا أحد يستمع إلى كلامه ولا يأخذ به على محمل الجد، فمرة يدعو إلى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بإقامة دولة واحدة من البحر إلى النهر يسميها “إسراطين” يعيش فيها اليهود والعرب في ديمقراطية وأمن وسلام، وهو مرة طالب العرب بإقامة دولة فاطمية على كامل التراب العربي، على غرار تلك التي قامت في عهود ماضية في مصر وأجزاء من شمال إفريقيا، وكانت موحدة وقوية ويعمها الرخاء.
القذافي نفسه هو من أقام فعلاً جماهيرية في ليبيا من طراز فريد لم يسبقها إليه أحد في التاريخ، جعل الناس في ليبيا يديرون شؤون حياتهم بأنفسهم، وبالطريقة التي يرضى بها ويتوافق عليها سكان كل حي وكل مدينة، فلا جمارك على أية واردات، ولا محاكم ولا سجون، لدرجة أنه أشيع مؤخراً بأن أموال العائدات النفطية يتم توزيعها على المواطنين يفعلون بها ما يشاؤون.
في قمة الدوحة الأخيرة طرح القذافي فكرة قديمة جديدة على زعماء العرب، لإقامة ولايات متحدة عربية، على غرار الولايات المتحدة الأميركية، لم يشأ أن يطرح عليهم فكرة إقامة دولة موحدة، حتى يحتفظ الرؤوساء والملوك والأمراء بمناصبهم وكراسيهم، لكن فكرته هذه برغم “عبقريتها” من الناحية النظرية، إلا أن أحداً لم يلتفت إليها ولم يعرها بالاً.
القذافي هو “عميد الزعماء” العرب لأنه أقدمهم في الحكم، وهو في الأصل بدوي، لا تعنيه الدبلوماسية والبروتوكول كثيراً، حين يزور دولة يفرض على مستقبليه إقامة خيمة كبيرة له ومرافقيه تذكّره بماضيه، فهو إن استثاره أحد، سريع الغضب، فج، لا يتورع عن مخاطبة محدثه بكلمات غليظة نابية، لا يمنعه من ذلك جلالة ولا فخامة ولا سمو، لذا ترى زعماء العرب وقادتهم ينشدون الستر في حضرته.
القذافي رجل شجاع ومقدام قاد ثورة الفاتح من أيلول في ليبيا، وهو لم يكن سوى ضابط برتبة ملازم، قبل زهاء أربعة عقود، رقى نفسه فوراً إلى رتبة عقيد، مزيحاً بذلك الملك الليبي السنوسي الطاعن في السن، لكنه لم يخش بطشاً في حياته غير بطش الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، بعد أن علق هذا الأخير مشنقة صدام حسين، حينها ركع القذافي وأسلم مفاتيح مشروعه النووي لأميركا، وكانت تلك سقطة أفجعت قلوب الملايين من محبيه.
لم يبق من القذافي غير ظهوره الإعلامي، وخفة ظله، يطل بها على الناس مرة كل عام، حين تعقد القمة، فيخفف من إنشاء سقيم وعبارات ممجوجة وشعارات معلبة ووجوه مكفهرة لا تغادر القصور إلا للقبور.
محمد رشيد – فلسطين
Leave a Reply