منذ انطلاقة الثورة التونسية أولاً، ثمّ المصرية لاحقاً، أشرت إلى أهميّة التلازم المطلوب بين (الفكر والأسلوب والقيادات) في أيِّ حركة تغييرٍ أو ثورة، وبأنّ مصير الانتفاضات الشعبية العربية سيتوقّف على مدى توفّر وسلامة هذه العناصر الثلاثة معاً. فالتغيير السياسي وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية هو أمرٌ مرغوب ومطلوب لدى العرب أجمعين، لكن من سيقوم بالتغيير وكيف؟.. وما هو البديل المنشود؟ وما هي تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية؟.. كلّها أسئلة لم تجد حتّى الآن إجابةً عنها في عموم المنطقة العربية، رغم أنّها مهمّةٌ جداً لفهم ما يحدث ولمعرفة طبيعة هذه الانتفاضات الشعبية العربية.
إنّ حركات التغيير العربية السائدة حالياً تحدث على أرضٍ عربيّة مجزّأة، حيث ينعكس ذلك على طبيعة الحكومات وظروف المعارضات، كما أنّها تجري في منطقةٍ تتحرّك فيها قوى إقليمية ودولية عديدة لها أجنداتها الخاصة، وتريد أن تصبّ “تغييرات” في مصالحها، فضلاً عن حدوث هذه الانتفاضات بعد سنواتٍ أخيرة من إطلاق الغرائز الانقسامية الطائفية والمذهبية والإثنية على امتداد الأرض العربية من محيطها الأطلسي إلى خليجها العربي. وقد يكون الأهم في ظروف هذه الانتفاضات وما يحيط بها من مناخ هو وجود إسرائيل نفسها ودورها الشغّال في دول المنطقة (منذ تأسيسها) من أجل إشعال الفتن الداخلية وتحطيم الكيانات القائمة لصالح مشروع الدويلات الدينية والإثنية.
ثمّ كم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها واستنزاف الدول المجاورة لها في حروبٍ متواصلة. وقد كانت هذه الدول الكبرى، وما تزال، مصدر الدعم والتسليح والتمويل لهذه الحروب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين والعرب، وها هي الآن تتحدّث عن الحرّية للشعوب العربية بينما ما يزال محظوراً لدى هذه الدول أيُّ تفكيرٍ بتجديد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكرياً، كما تفعل بعض شعوب المنطقة من أجل تغيير حكوماتها!!.
الانتفاضات الشعبية العربية تحدث في أوطانٍ غير مستقرّة، لا دستورياً ولا اجتماعياً، ولا هي (أي هذه الانتفاضات) موحّدة سياسياً أو فكرياً، ولا هي متحرّرة من أشكال مختلفة من التدخّل الأجنبي والإقليمي. وهذا الأمر يزيد الآن من مسؤولية قوى التغيير والمعارضات العربية ومن أهمّية مقدار تنبّهها في ألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها. فقد كانت هنا المشكلة أصلاً في السابق حينما عجزت قوى سياسية معارضة عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام المستبدين الفاسدين وأطالت بأعمار حكمهم، ممّا جعل شرارت التغيير تبدأ من خارج هذه القوى، ومن شبابٍ عربي احتاج أصلاً إلى الرعاية الفكرية والسياسية السليمة.
حتّى الآن هناك ملاحظات كثيرة على ماهيّة “الأفكار”، وطبيعة “القيادات” التي تستثمر “أساليب” الانتفاضات العربية. فلا يجوز طبعاً أن تكون “الأساليب” السليمة لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة تسرق التضحيات والإنجازات الكبرى وتُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال بعض الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة ثم تتحوّل لاحقاً إلى أسوأ ممّا كان يجري من قبلها على أرض الواقع.
أيضاً، لا نجد الآن في كلّ الانتفاضات الشعبية العربية التوازنَ السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر والوحدة الوطنية ومسألة الهوية العربية. فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً وليس شعار الديمقراطية فقط، إلاّ إذا كان ما يحدث الآن هو تنفيذٌ لما دعا إليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، عام 2004 في قمّة “الناتو” في إسطنبول، من تشجيع للتيارات السياسية الدينية على الأخذ بالنموذج التركي الذي يجمع بين الإسلام والديمقراطية في دولةٍ هي عضوٌ في “الناتو” ولها علاقات طبيعية مع إسرائيل!!.
منذ أكثر من عام، كتب معارض وطني سوري، هو الدكتور خالد الناصر، عن مواصفاتٍ مطلوبة للحراك الشعبي في سوريا، فقال: “أنا أرى أن يتمَّ التمسّك بالخطوط التالية: 1- سلمية الحراك الشعبي مهما كانت ردود فعل النظام. 2- الوحدة الوطنية وعدم السماح بالإنزلاق إلى أيِّ طرحٍ طائفي مهما حدث. 3- عدم إعطاء أيَّة فرصة للتدخّل الخارجي ناهيك عن موضوع استدعائه المرفوض كلياً. 4- عدم المساس بثوابت سوريا المعروفة تاريخياً عبر كلّ أنظمتها وهي الانتماء العربي والتمسّك بالمقاومة لقوى الهيمنة. 5- عدم استعداء حلفاء النظام الخارجيين، كما قد بدر من بعض القوى الحمقاء من المعارضة، وتحييدهم لأنّهم خارج موضوع هذا الصراع أصلاً… حينها يصبح تصعيد الحراك الشعبي هو الوسيلة التي لا مناص منها لحصول التغيير، وأي تفريط في الخطوط التي ذكرت سيكون نذير فشل ومثار خطر يجب أن نحذر منه وأن نتجنّبه، فنحن نريد سوريا المعافاة القوية الديموقراطية القادرة على أن تقوم بدورها القومي الهام في المنطقة وليس مجرّد استبدال نظام مسدود الأفق بنظام لا نعرف أين سيصبّ”.
فأين هي قوى المعارضة السورية الآن من هذه المواصفات السليمة لتحرّكٍ شعبي سار للأسف في الاتّجاه المعاكس لكلّ بندٍ منها؟!.
نعم هناك ضرورة قصوى للإصلاح والتغيير في سوريا وفي عموم المنطقة العربية، لكن السؤال هو كيف، وما هي ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب كسب الآليات الديمقراطية في الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش بعد غزوها للعراق من ترويجٍ لمقولة “ديمقراطية” تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهويّة العربية وتوزيع الوطن الواحد إلى كانتونات فدرالية؟ ألم يكن ذلك واضحاً في نتائج حكم بول بريمر للعراق وما أفرزه الاحتلال الأميركي للعراق من واقعٍ سادته الانقسامات الطائفية والإثنية، بل والجغرافية، للوطن العراقي الواحد؟! ألم تكن هذه أيضا مراهنات إدارة بوش وإسرائيل من حربيهما على لبنان وغزّة بعدما فشلت “الانتخابات الديمقراطية” فيهما بإيصال من راهنت عليهم واشنطن وتل أبيب آنذاك؟
ذلك كلّه يحدث الآن في المشرق العربي بينما مصر منشغلة في همومها الداخلية، وبينما المراهنة الإسرائيلية هي على تعويض خسارة نظام مبارك من خلال محاصرة مصر بأزماتٍ عربية تخضع الآن لحالٍ من التدويل والتقسيم، وبتحويل ما يحصل فيها من انتفاضاتٍ شعبية إلى حروبٍ أهلية داخلية.
إنّ القلق يبقى مشروعاً على مقدار التنبّه أولاً لمحاولات الفتن الشعبية في أكثر من بلد عربي، وعلى ما يحصل من تصفية حسابات إقليمية ودولية من خلال أزمات عربية داخلية، ثمّ التنبّه أيضاً ممّن يريدون أولويّة المكاسب السياسية الفئوية لجماعات حزبية كنتائج للحراك الشعبي ولحركات التغيير. فهناك في الحالتين أشخاصٌ جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث لها عن عملاء ووكلاء.
إنّ تحميل “نظرية المؤامرة” وحدها مسؤولية المصائب والسلبيات هي حتماً مقولةٌ خاطئة ومُضلّلة، فكلّ ما يحدث من “مؤامرات خارجية” يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية، لكنّه أيضاً يشكّل “قصر نظر” كبير لدى من يستبعد دور ومصالح وأهداف “الخارج” في منطقةٍ مهمة جداً لكل العالم، وهي تشهد الآن أهمّ التحوّلات السياسية والأمنية والجغرافية!
Subhi@alhewar.com
Leave a Reply