لم يكن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بحاجة إلى حضور القمة العربية الدورية الأخيرة في الدوحة. فطيفه كان حاضراً بقوة من خلال النفوذ الذي تتمتع به إيران في عدد من العواصم العربية ومنها العاصمة المضيفة للمؤتمر والرئيسة الدورية للقمة في السنة القادمة.
وإذا كان لعدم دعوة نجاد إلى القمة العربية أثر “إيجابي” تمثل بحضور معظم القادة العرب البارزين، باستثناء الرئيس المصري حسني مبارك، فإن غيابه لم يكن من شأنه أن يسهم كثيراً في دفع العلاقات العربية – العربية إلى الأمام أو إحداث اختراق مهم في أزمة الثقة التي تتحكم بالمحورين العربيين المندرجين تحت عنواني “الممانعة” و”الاعتدال”. فالعلاقات العربية – العربية كانت ولا تزال تحتضن الكثير من المشاكل والأزمات التي لا يقدم “الابتعاد” الإيراني عن ساحتها أية حوافز حقيقية لترميم الوضع العربي وإعادة امتلاكه للحد الأدنى من التضامن الذي كان سائداً مع المحور الثلاثي الذي شكلته مصر والسعودية وسوريا حتى لحظة انهياره مع سقوط العراق كدولة وتعريض الأمن العربي برمته إلى اختراقات خطيرة سوف تظل تداعياتها ماثلة إلى أمد بعيد.
وغني عن القول أن صعود الدورين الإيراني والتركي في المنطقة وامتلاكهما لموقع المرجعية الإقليمية لم يأت إلا من فراغ أحدثه غياب الدور العربي خلال السنوات القليلة الأخيرة وتحديداً منذ إندفاعة الإدارة الجمهورية الأميركية السابقة نحو المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ومحاولة فرض تغييرات جيوسياسية جذرية في تركيبتها وكياناتها التي رسمها الاستعمار الغربي على عجل مطالع القرن الماضي.
ومن نافل القول أن مؤسسة الجامعة العربية نشأت برغبة بريطانية في منتصف أربعينات القرن الماضي لنظم العلاقات العربية في إطار فوق كياني تسهيلاً لتعامل حكومة جلالة الملكة مع أوضاع المنطقة العربية. وهذه المؤسسة التي لا تقتصر شرعيتها على تنظيم القمم السياسية، لم تؤد خلال العقود الستة الماضية أي دور يذكر على صعد التنمية الاقتصادية والبشرية التي تقع في صلب مهماتها، فتحولت إلى منسق للقاءات القمة التي ظلت تنعقد بصفة طارئة تبعاً لأحداث كبرى تتصل أساساً بالصراع العربي-الإسرائيلي إلى أن ازدادت وتيرة الأحداث وارتفعت نسبة “الطوارئ” في طبيعة دور القمة في ظل استمرار التردي العربي وتقهقر أوضاعه مما حدا بالجامعة العربية إلى تحويلها من الطارئ إلى المنتظم أو الدوري، فباتت القمة سنوية تتجول على العواصم العربية وفق التسلسل الأبجدي وتفي بغرض اللقاء وحسب، إثباتاً للمعنيين بالشأنين الإقليمي والعالمي أن انتظارهم قد يطول قبل أن تنتقل القمة إلى ذمة التاريخ.
على أن هذه الحال التي تمر بها مؤسسة القمة العربية لا تسعد مواطناً عربياً واحداً من المحيط إلى الخليج ومن المغرب إلى المشرق.
وما شهدناه في قمة الدوحة الأخيرة، رغم كل الكلام المتفائل عن التوافق على “إدارة الخلافات” والعزم على مواصلة رحلة المصالحات، إن هو إلا ذر للرماد في عيون الشعوب العربية التواقة إلى التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل وتحقيق الرفاه الاجتماعي وتعزيز الرعاية الصحية، بعيداً عن صخب الشعارات الرنانة التي لم تعد قادرة على جذب المشاهد العربي إلى متابعة أحداث القمم، اللهم إلا من باب توسل التسلية والترويح عن النفس عبر المشاهد والمداخلات المثيرة للضحك والسخرية مع “الممثل” الليبي العقيد معمر القذافي الذي “أبدع” في قمة الدوحة الأخيرة في “اعتذاره” من الملك السعودي عبر نص حمل من الشتيمة والإهانة ما يتطلب اعتذاراً آخر، لكن “حكمة” القطريين وتحكمهم بأجهزة الإنصات والبث مررت المشهد الكوميدي الليبي على خير.. وتمت المصالحة بين “ملك ملوك إفريقيا” و”عميد الحكام العرب” و”إمام المسلمين” وبين الملك “العبد للّه” السعودي، لتشكل أحد “إنجازات” قمة الدوحة!
أما الأمر الأغرب فهو محاولة تصوير “انطلاق عملية المصالحة العربية” التي غابت عنها مصر، بوصفها أبرز إنجاز لقمة الدوحة رغم تبني القمة لمصطلح “إدارة الخلافات” نزولاً عند الرغبة السورية وإقراراً بأن الوضع العربي لن يشهد في المدى المنظور أية إمكانية لـ”إدارة توافقات” أو مصالح مشتركة أو لدرء مخاطر تحدق بالوضع العربي برمته على ضوء إعادة ترتيب النظام الدولي اقتصادياً ومالياً وسياسياً، وفي ظل إدارة أميركية جديدة تسعى إلى التصالح مع ألد أعداء أميركا في أفغانستان وإيران وينطلق قطار التفاهمات، الدولية – الأميركية- الإقليمية خارج كل الحسابات العربية مع ما تحمله هذه التفاهمات من سيناريوهات خطيرة وصفقات أكثر خطورة، فيما العرب لا يزالون يعيشون عصر “المصالحات غير المكتملة” وحالة الانتظار وترف الجدال حول “تعقل” محور الاعتدال أو “تهور” محور الممانعة!
قد يصرف العرب السنة المقبلة برمتها في استكشاف معالم الطريق نحو المزيد من المصالحات وقد لا ينتهون منها قبل أن ينتقل عرض القمة القادم إلى ديار العقيد “ملك الملوك” في طرابلس الغرب بعد تخلي العراقيين عن هذا “الهم” لـ”إمام المسلمين” الذي قد يضطلع في القمة القادمة بدور “أمير المؤمنين” أو “الحاكم بأمر الله”.. من يدري؟
لكن الأمر الأكيد أن مؤسسة القمة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإذا كان بمقدور الدوحة رئيستها الحالية إدخالها إلى غرفة إنعاش تشرف على غيبوبتها خلال العام القادم، فإن من المرجح بقوة أن تشيع من طرابلس الغرب إلى مثواها الأخير في القاهرة في موكب مهيب يتقدمه “عميد الحكام العرب” معمر القذافي!
Leave a Reply