طارق عبدالواحد – «صدى الوطن»
فيما لايزال المؤرّخون منقسمين حول الموطن الأصلي لشجرة البنّ بين إثيوبيا واليمن، يتصدى اليمنيون الأميركيون بروح وثّابة لكتابة فصل جديد في تاريخ المشروب الأكثر شهرة في العالم، عبر تأسيس عشرات المقاهي المتميزة في ولاية ميشيغن وعموم الولايات المتحدة، محوّلين منطقة ديربورن إلى ما يشبه ميناء مُخا التاريخي الذي كان بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، السوق الرئيسية لتصدير القهوة إلى شعوب العالم، والذي يُنسب له شراب «الموكا» الشهير.
والحكاية –رغم إثارتها– لم تبدأ إلا قبل سنوات قليلة في المنطقة التي تحتضن أقدم وأكبر جالية يمنية في أميركا، وذلك عندما قرّر أحد المهاجرين اليمنيين إعادة الاعتبار إلى القهوة اليمنية وتقاليدها العريقة في وطنه الأم، فقام بتأسيس مقهى «قهوة هاوس» على شارع شايفر بديربورن في عام 2017، وبفضل نجاحه الباهر ما لبث أن افتتح فرعاً ثانياً في غربي ديربورن، وثالثاً في مدينة نيويورك، متحدياً العقبات الاقتصادية والاجتماعية التي ألّمت بأسواق المطاعم والمقاهي في أعقاب وباء كورونا، وهو يستعد حالياً لفتح مقهى رابع في ولاية إيلينوي، إضافة إلى 20 مقهى في كافة أنحاء أميركا بحلول نهاية العام المقبل.
كان ذلك هو المستثمر الشاب إبراهيم الحاصباني الذي يستحق عن جدارة لقب رائد صناعة القهوة اليمنية في ميشيغن، لاسيما بعد أن حذا عدد من المستثمرين اليمنيين الشباب حذوه دونما تأخير، ليؤسسوا مزيداً من المقاهي داخل ديربورن وخارجها، مثل «حراز»، و«قمرية»، و«فنجان»، و«موكا كافيه».. والحبل على الجرّار.
قبل هجرته إلى نيويورك عام 2011، ثم انتقاله إلى ميشيغن عام 2016، نشأ الحاصباني في عائلة تمتلك مزرعة للبنّ في مسقط رأسه، وتعرّف منذ يفاعته على طرق تحضيرها وفق العادات المحلية التي تختلف من منطقة إلى أخرى داخل اليمن. لذلك كان من المتوقع ألا يستسيغ مذاق القهوة المحضّرة على الطريقة الأميركية، غير أن رواج المقاهي العصرية، مثل «ستاربكس» و«تيم هورتن»، عزز شغفه الشخصي وفخره الوطني بتقديم القهوة اليمنية بطريقة مبتكرة انطلاقاً من ديربورن.
لا تقتصر قائمة فروع «قهوة هاوس» المتنامية، على تقديم القهوة اليمنية فحسب، وإنما توفر أيضاً جميع المشروبات التقليدية التي تقدمها المقاهي بأميركا، مثل «لاتيه» و«كابتشينو» و«إسبريسو» وغيرها، إضافة إلى بعض المأكولات والحلويات والمعجنات المصنوعة على الطريقة اليمنية التقليدية.
بحسب الحاصباني، يتميز البن اليمني عموماً بمذاقه الحلو الطبيعي، موضحاً أن أفضل طريقة لإعداد القهوة يكمن في طريقة صبّه من الأعلى بإيقاع بطيء لتكثيف النكهة والجودة إلى حدها الأقصى. كما أن أحد المشروبات التي يقدمها «قهوة هاوس» يتم إعداده بشكل أساسي من قشور البن، ما يرفع من جودة المذاق، إلى جوانب فوائده العميمة للمعدة والجسم بشكل عام.
وحول تجربته الرائدة في قطاع المقاهي بمنطقة ديربورن، قال الحاصباني: «عندما جئت إلى أميركا، رأيت الكثير من الناس يحبون القهوة ويشربونها في جميع الأوقات، وحين ارتشفتها شعرت بطعمها المختلف، لقد كان المذاق مختلفاً تماماً عن مذاق القهوة التي اعتدت على شربها في اليمن».
وأضاف: «منذ تلك اللحظة، ولدت في رأسي فكرة فتح مقهى يقدم القهوة على الطريقة اليمنية».
قهوة الحواس الخمس
لم يرد الحاصباني لعمله التجاري أن يكون «مجرد مقهى» لتقديم القهوة وباقي المشروبات الأخرى، إذ كان يتطلع إلى أن يكون البنّ اليمني سفيراً حضارياً لليمن السعيد وملتقى ثقافياً لجميع الأميركيين بغض النظر عن خلفياتهم وأعراقهم وإثنياتهم، وواحة لتذوق البنّ الأجود والأفخر والأغلى في العالم.
لم يتأخر الحاصباني عن تحقيق رؤيته، إذ بادر إلى إطلاق «اليوم الثقافي اليمني»، الذي أقيمت نسخته الثانية في فرع «قهوة هاوس» بغرب ديربورن، يوم 28 آب (أغسطس) المنصرم، بحضور العديد من المسؤولين المحليين والفعاليات المجتمعية.
وأكد الحصباني بأن «اليوم الثقافي اليمني» لا يخصّ مقهى «قهوة هاوس» لوحده، ولا يهدف إلى ترويج منتجاته، وإنما هو احتفال بالثقافة اليمنية بأكملها، من خلال الاستمتاع بالموسيقى والغناء، مروراً بالرقص والأزياء، ووصولاً إلى الحلويات والمشروبات اليمنية.
وقال: «القهوة اليمنية تُشرب بالحواس الخمس»، مضيفاً: «يأتي الناس إلينا ويحتفلون معنا في اليوم الثقافي اليمني لكي يتعرفوا على ثقافتنا، ومن ثم لكي يشاهدوها ويلمسوها ويشموها… إن مقهانا هو مكان لجمع الناس من مختلف الخلفيات والثقافات، هؤلاء الذين يجمعهم شغف واحد هو عشق القهوة».
وكان «قهوة هاوس» قد حظي بتقدير خاص من حاكمة ميشيغن، غريتشن ويتمر، التي أبرقت –في اليوم الثقافي اليمني– برسالة أشادت خلالها بالسلسلة التجارية الناهضة ودورها في التعريف عن ثقافة الجالية اليمنية ودورها المتنامي في تعزيز الاقتصاد بمنطقة ديترويت.
كوب القهوة وصحن الحمّص
لمقهى «حراز» قصة نجاح لا تقل إبهاراً عن «قهوة هاوس»، فقد تأسس أول فرع للسلسلة، على شارع ميشيغن أفينيو بديربورن عام 2019، وأصبحت لديها –حالياً– تسعة فروع تتوزع في أنحاء ولاية ميشيغن، وهي –إلى جانب ديربورن– تقع في كل من ديترويت وآناربر وستيرلنغ هايتس وليفونيا ولانسنغ.
ويستمد المقهى اسمه التجاري من منطقة حراز اليمنية المشهورة بإنتاج أفخر أنواع البن في العالم، حسبما أفاد مالك الشركة حمزة ناصر لـ«صدى الوطن»، لافتاً إلى أنه يواصل جهوده لافتتاح 17 فرعاً إضافياً في ولايات إيلينوي وأوهايو وكنتاكي وتكساس وميريلاند وفيرجينيا.
وأكد ناصر (35 عاماً) بأن البنّ الحرازي يتفوق على البن البرازيلي والكولومبي من حيث الجودة والنكهة والرائحة، وأن تذوق القهوة اليمنية هي «تجربة مثيرة» لعشاق هذا المشروب السحري، رغم الارتفاع المتواصل في أسعار المواد الأولية بسبب الحرب والاضطرابات الأمنية في بلد المصدر.
وأوضح ناصر بأن أسعار البن اليمني تزيد بنحو ثلاثة أضعاف عن أسعار البن العالمية، بسبب جودته من جهة، وزيادة الطلب على المحاصيل المحدودة أصلاً بسبب الصراعات الداخلية والإهمال الذي أصاب مزارع البن عبر السنين، إضافة إلى تداعيات كورونا التي تسببت بجنون أسعار النقل والشحن العالمي.
وقال ناصر إن شركته ملتزمة باستيراد البن اليمني رغم جميع الصعوبات لكي لا تخذل توقعات زبائنها الذواقين، ولكي تواصل دعمها للمزارعين اليمنيين، منوهاً بأن ما تستورده مقاهي «حراز» يساهم في إعالة عشرات الأسر المحلية العاملة في زراعة البنّ في المنطقة المشار إليها آنفاً.
وكان ناصر قد هاجر وهو طفل إلى أميركا في عام 1994، وتنقل بين عدة أعمال قبل أن يمتلك محطة وقود وشركة نقل، لكن مع تفشي كورونا قرر الانتقال إلى قطاع المقاهي، واضعاً نصب عينيه «إعادة الاعتبار والمجد إلى القهوة اليمنية».
على شاكلة «قهوة هاوس»، تمتلك مقاهي «حراز» مجموعة كبيرة من المشروبات المعدة وفق وصفات خاصة، مثل «حراز لاتيه»، بيستاشيو لاتيه، المفوّر، والشاي العدني، وغيرها.
وأوضح ناصر بأن الشباب اليمني الأميركي في منطقة ديترويت أصبحوا أكثر فهماً لغنى وثراء الثقافة اليمنية، على عكس المهاجرين الأوائل الذين لم يدركوا المزايا الفريدة لمأكولاتهم وحلوياتهم ومشروباتهم الشعبية، معرباً عن توقعه بأن تكتسح المقاهي اليمنية، السوق الأميركية في قادم الأيام.
وقال ناصر: «إن شعبية البن اليمني تزداد بشكل متسارع في الولايات المتحدة، تماماً مثل قصة صحن الحمّص الذي تحول من أكلة شعبية إلى أشهر طبق في العالم، خاصة وأن الأرقام تؤكد بأن البنّ هو السلعة الأكثر استهلاكاً بعد البترول في الوقت الحاضر».
واعتبر ناصر، ديربورن مدينة مثالية للاستثمار بما تملكه من فرص وطاقات استثنائية في العديد من المجالات، وقال: «عندما ظهر كورونا، تأثر معظم الأعمال التجارية في عموم أميركا بشكل سلبي بسبب السياسات الحكومية التي فرضت التباعد الاجتماعي، لدرجة أن العديد من المطاعم والمقاهي اضطروا للإغلاق والخروج من السوق، أما في ديربورن فقد حدث العكس تماماً». وأضاف ناصر بأن عاصمة العرب الأميركيين هي مدينة شديدة التنافسية بسبب تزاحم الأعمال التجارية وتشابهها، ولكن «المنتج الجيد يفرض نفسه دائماً». وتابع قائلاً: «من ينجح في ديربورن، فسوف ينجح في أي مكان آخر في أميركا».
وبغية دعم صناعة المقاهي العربية، أسس ناصر مدرسة خاصة في ديربورن باسم «حراز باريستا أكاديمي» لتدريب المستثمرين، بمن فيهم أصحاب الميزانيات المحدودة، على «لوجستيات العمل في صناعة المقاهي»، وكذلك تدريب طواقم العمل على المهارات والموارد الفريدة، التي من شأنها أن تسهم في ازدهار هذا النوع من الأنشطة التجارية، مع الاعتناء بإرشادات الصحة الغذائية والسلامة العامة.
من المزرعة إلى الفنجان
سلسلة مقاهي «قمرية» لم تكن بمنأى عن طفرة المقاهي اليمنية في منطقة ديربورن، إذ سرعان ما تطورت في غضون عامين من محمصة محلية في حيّ ديكس بجنوب ديربورن إلى شركة ناهضة تضم حالياً خمسة فروع في ديربورن وآلن بارك وتروي وكوميروس (فرعان)، مع خطط مستقبلية لافتتاح فروع جديدة في ميشيغن وإيلينوي وتكساس.
وقد حرص مؤسّسا «قمرية»، منيف الماوري وحاتم العيدروس، على انتقاء اسم تجاري ذي دلالة ثقافية في العمران اليمني، حيث تعتبر القمريات تحفاً معمارية في التراث اليمني، وهي عبارة عن أنصاف دوائر مصنوعة من الزجاج الملون تعلو النوافذ الخارجية للمباني، لإضفاء لمسات جمالية وجلب المزيد من الضوء إلى المنازل.
ومقاهي «قمرية» التي ترفع شعار «تجربة مثالية من المزرعة إلى الفنجان»، تركز أيضاً على الديكورات الداخلية لمتاجرها المتعددة، عبر جداريات فوتوغرافية تحتفي بمزارعي وحرفيي البنّ ومواسم القطاف وعمليات التحضير والتحميص، التي تعتبر من الطقوس التراثية في اليمن. وفي السياق، قال الماوري: «لقد أخذنا وقتنا في تحسين العلامة التجارية ومواءمتها مع أهدافنا الطويلة المدى قبل الدخول في بزنس المقاهي، الشديد التنافسية، هنا في منطقة ديربورن»، لافتاً إلى أن النتائج فاقت التوقعات ما شجعهم على النمو والتوسع خلال فترة قصيرة.
دعم مزارع البنّ
مقهى «فنجان» في غاردن سيتي، لصاحبه فارس عبدالمالك، لربما هو المقهى اليمني الوحيد ألذي تمّ تأسيسه خارج مدينة ديربورن، حيث تم افتتاحه على شارع فورد في العام المنصرم، إلا أنه مثل باقي المقاهي الأخرى يمتلك خططاً طموحة لافتتاح المزيد من الفروع في ديربورن وماديسون هايتس، إضافة إلى فروع أخرى في عدد من الولايات الأميركية.
وأوضح عبدالمالك (36 عاماً) بأنه يفضل «التمهل» في الوقت الحالي، قبل الشروع بتوسيع شركته الناشئة بسبب تدني الموارد في اليمن بسبب المنافسة المستجدة في السنوات الأخيرة، إلى جانب العراقيل التي تعترض عمليات استيراد البن من اليمن التي لاتزال تعاني من تبعات الحرب وانتشار الميليشيات المسلحة.
ولفت عبدالمالك إلى أنه باشر بتأسيس مزرعة تضم أربعة آلاف شجرة بن في منطقة رداع باليمن من أجل تفادي الصعوبات التي تعترض عمليات الاستيراد من الموانئ اليمنية، موضحاً أنه كان يضطر في بعض الأحيان إلى الاستيراد عبر أحد الموانئ في دولة عُمان.
وقال: «لقد قمنا العام الماضي بزراعة آلاف الأشجار، وهي تحتاج إلى ثلاث سنوات حتى تبدأ بالعطاء، وهذه الخطوة ضرورية لكي تحافظ منتجاتنا على نكهة ثابتة»، مضيفاً: «إن الحصول على البنّ من مصادر متعددة يؤدي إلى تغير النكهات والمذاق، ونحن نرغب بأن تكون لدينا نكهتنا الخاصة والثابتة».
ولفت عبدالمالك في حديث مع «صدى الوطن» إلى أن البن اليمني رغم جودته وغناه بالعناصر الغذائية، إلا أنه كان محصوراً في الاستهلاك المحلي، وهو ما أثر سلباً على مزارع البن في موطنها بمنطقة حراز. وقال إنه يهدف من المزرعة الجديدة دعم زراعة البن في اليمن، وتأمين المصادر لمتاجره في الولايات المتحدة، وتفادي العراقيل المستقبلية التي لا يمكن التنبؤ بها.
عبدالمالك الذي هاجر إلى أميركا في عام 1994 وهو في سن الثامنة، كان قد عمل لعدة سنوات خلال دراسته الجامعية في مقاهي «ستاربكس» ما أهلّه لكسب خبرات إضافية في هذا المجال، وساعده على توليد العديد من الخلطات التي تمزج بين الوصفات الأميركية والوصفات اليمنية التي تعطي أولوية متزايدة للبهارات المتعددة، مثل الهال والزنجبيل.
ولدى سؤاله حول أسعار المشروبات اليمنية مقارنة بمشروبات المقاهي الأميركية، أوضح عبدالمالك بأن أسعار القهوة اليمنية رغم ارتفاع كلفة موادها الأولية تعتبر «معقولة» بالمقارنة مع قهوة «ستاربكس» مثلاً. وقال: «إذا أخذت النكهة والمذاق بعين الاعتبار فإن أسعار المقاهي اليمنية تعتبر رخيصة».
وأعرب عبدالمالك، الذي تخرج من «جامعة وين ستايت» باختصاص الصحة الغذائية، عن اعتقاده بأن المقاهي اليمنية ستشهد المزيد من التوسع والازدهار في عموم الولايات المتحدة خلال السنوات القادمة، وذلك بسبب جودتها وفرادتها، إضافة إلى التحولات التي تعتري واقع الجالية اليمنية في منطقة ديترويت، حيث بات «الشباب اليمني أكثر ميلاً وحماساً لتأسيس أعمالهم التجارية الخاصة، بعد أن كان آباؤهم يركزون على العمل عند الآخرين، مثل مصانع السيارات ومحطات الوقود وغيرها من الشركات».
Leave a Reply