هل أخطأ جعجع التقدير.. فوقع في المحظور؟
فجأة ومن دون سابق إنذار، ودون مقدمات سياسية أعلنت “القوات اللبنانية” أنها تتعرض لمحاولة عزل وبدأ رئيسها وقيادتها وإعلامها، يتحدثون عن ذلك، وهم يستحضرون مرحلة سبقت الحرب الأهلية، عندما قررت الحركة الوطنية بقيادة الراحل كمال جنبلاط، عزل حزب الكتائب، بعد ان ارتكب حادثة إطلاق النار على باص للركاب كان ينقل مواطنين فلسطينيين، كانوا يعبرون منطقة عين الرمانة، كرد فعل على مقتل الكتائبي جوزف أبي عاصي.
وهذه الحادثة، جاءت نتيجة تراكمات من الحوادث، التي فجرت الفتنة الداخلية، مع وقوع صدامات بين الكتائبمن جهة والفلسطينيون من جهة اخرى ، واحيانا بين القوى الامنية والجيش من جهة وفصائل فلسطبنية، وهي بدأت منذ العام 1969 عندما تمركزت المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، وتحديداً في منطقة العرقوب بما سمي “فتح لاند” حيث امتشق الفلسطينيون السلاح كرد على هزيمة حزيران التي وقع فيها الحكام العرب في العالم 1967، ولاستعادة حقوقهم الوطنية، واسترداد أرضهم التي فقدوها في نكبة 1948 ونكسة 1967.
فالعزل لحزب الكتائب، كان سياسياً، ولم يقصد واضعوه، عزل طائفة، إذ جرى استغلال قرار الأحزاب الوطنية والتقدمية، من قبل حزب قام على خطاب طائفي، وتخويف جماعته الدينية من الأخر، واستغلال أحداث مع المقاومة الفلسطينية، والنظر إليها على أنها مجموعة “غرباء” لا أصحاب قضية استرداد الارض وحق العودة للنازحين، مما دفع بالكتائبيين الى قرع أجراس الكنائس كانذار للمسيحيين، في 13 نيسان 1975، وهو يوم مشؤوم في تاريخ لبنان، وفيه اندلعت شرارة الحرب الأهلية، التي اتخذت طابعاً طائفياً، كما رسم لها مخططوها، للقضاء على المقاومة الفلسطينية، وتأمين امن اسرائيل.
فقرار عزل الكتائب جاء في سياق أحداث لمنع حصول فتنة داخلية، ليس إلا، وبعد ان ظهرت إشارات عن تعاون كتائبي مع العدو الاسرائيلي، وعن مخطط أميركي–إسرائيلي لتقسيم لبنان، وضعه وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر، فكان العزل لمواجهة المخطط والقضاء عليه قبل ان يدخل مرحلة التنفيذ.
واليوم و بعد مرور 35 عاماً على قرار العزل المذكور الذي اختلفت وجهات النظر حوله، تطل “القوات اللبنانية” بنغمة عزلها، ولم يتحدث احد فيها، فكل ما قيل أنها قد تصبح وحيدة، بعد ان انفرط عقد قوى “14 آذار”، وخروج الحزب التقدمي الاشتراكي منها، وتوجه رئيسه نحو سوريا، واستعادة العلاقات معها، بعد استقبال رئيسه لها، واعتبار المرحلة السابقة من العام 2005 الى 2009، من الماضي وهي صفحة سوداء بتاريخه قد طويت، حصلت فيها أخطاء كما قال جنبلاط، وكل طرف اعترف بما ارتكبه، إضافة الى دعم وتأييد المقاومة، واعتبارها خيار لبنان في الدفاع عن أرضه.
فتحول جنبلاط من 14 آذار، الى موقعه القديم الجديد، ثم انقلاب رئيس الحكومة سعد الحريري على موقعه السابق، وانتقاله من مكان الى أخر سياسياً، بفتح علاقة جديدة مع سوريا، تركت الأنظار تتجه نحو “القوات اللبنانية” كعنصر أساسي في مجموعة 14 آذار وكقوة مسيحية فاعلة بعد ان خرج حزب الكتائب أو علق حضوره في اجتماعات الأمانة العامة لـ14 آذار، وكان سبقه حزب الكتلة الوطنية و حركة التجدد الديمقراطي، ولم تعد من فاعلية لها، إذ تقتصر اجتماعاتها الدورية على بيان أسبوعي، يخالف توجهات الحكومة ورئيسها.
لذلك كان الحديث في الصالونات السياسية، والإعلام، من ان “القوات اللبنانية” قد تعزل نفسها، إذا لم تلاق التحولات التي حصلت، وانتقال حلفاء لها الى مواقع اخرى، ولا يمكن لأي حزب ان يعزله احد، إذا ابتعد هو عن الوفاق الوطني، ورسم لنفسه خطاً بيانياً سياسياً، لا يتوافق مع الخطاب الوطني الجامع، ولا مع التوجهات العامة، لا سيما في موضوعين أساسيين ومصيريين، هما المقاومة وحمايتها ودعمها كقوة للبنان، والعلاقة مع سوريا، التي تمتاز عن أية علاقات مع دول اخرى، لأنها الجارة الأقرب في الجغرافيا السياسية كما في الدورة الاقتصادية بين الدولتين، اللتين تجمعهما روابط اجتماعية وتاريخية، ومصير مشترك بمواجهة الأخطار الخارجية، وفي مقدمتها العدو الاسرائيلي.
لقد مرت القوات بتجربة مرحلة ما بعد اتفاق الطائف وهي انخرطت فيه بعد ان أيدته وتمت تسمية رئيسها سمير جعجع وزيراً في أول حكومة وفاق وطني، نهاية العام1990، برئاسة عمر كرامي الذي قبل ان يكون جعجع فيها، بالرغم من توجيه الاتهام نحوه بمسؤوليته عن اغتيال الرئيس رشيد كرامي، إلا ان القضاء لم يكن قد قال كلمته بعد، وقد دان جعجع وحاكمه بعد أربع سنوات وسجنه، ولم يخرج إلا بعفو من مجلس النواب فرضه وصول أكثرية نيابية كانت تأتمر من الإدارة الأميركية آنذاك.
إلا ان هذه التجربة لم تكمل بها القوات، فانقلبت عليها، وقررت الخروج من الحكومة، وقاطعت الانتخابات النيابية، وحرّضت على سوريا التي فتحت قلبها وصدرها لجعجع، وحاورته عبر مسؤوليها السياسيين والأمنيين، لكنه كان ينتظر تحولات إقليمية ودولية، علها تقلب المعادلات الداخلية، التي اعتبر جعجع انه ليس القطب المسيحي فيها، بل هو واحد من مجموعة قوى وشخصيات مسيحية تشارك في القرار، كما انه انتظر عدواناً إسرائيليا على المقاومة، فكانت عملية تصفية الحساب في تموز 1993، التي كشفت ان الرهان على العامل الخارجي لم يغب عن التوجه القواتي، كماعاد خطابها لللامركزية السياسية يطرح من جديد، وعاد الكلام عن الفدرالية وهو ما اقلق طابخي اتفاق الطائف ورعاته. العرب والإقليميين والدوليين، وتحديداً سوريا التي انتدبت بمهمة وقف الحرب الأهلية وإعادة بناء المؤسسات الدستورية وتوحيدها، وحل الميليشيات وعودة العمل الى الجيش والأجهزة الأمنية.
بدأ جعجع يتصرف كمعزول سياسياً، وأصبح خارج الحكومة، ولم يشارك في الانتخابات النيابية، بعد ان سمي له عدد من القواتيين كنواب في التعيينات النيابية، لكنه أصر على مشروعه “الفدرالي” وتلطى وراء بكركي، ودفعها نحو تأييد مقاطعة الانتخابات وكاد الوضع ان يفلت امنياُ من جديد، بعد انكشاف وجود أسلحة في مخازن القوات، التي أضطرت الى بيعها، بتأييد من الرئيس الراحل الياس الهراوي وفق ما نقل عنه ويروي.
كل هذه المؤشرات، وضعت “القوات اللبنانية” أمام المجهر، بعد ان ظهرت وكأنها بدأت تخرج عن الوفاق الداخلي، وهو ما تحاول ان تفعله في هذه المرحلة، ومن خلال الانقلاب على الخطاب الوطني الجامع، الداعم للمقاومة، والداعي للعلاقة المميزة مع سوريا، حيث ما زال خطاب جعجع خارج السياق الوطني العام، وهو ما اظهر قواته، وكأنها تعزل نفسها بنفسها، وتحاول تكرار تجربة الكتائب عام 1975، عندما بدأت تتدرب وتتسلح وتؤيد الجيش اللبناني ضد الفلسطينيين، ثم في خروج القوات عن الوفاق الوطني الذي أمنته صيغة اتفاق الطائف، للانتقال نحو السلم الأهلي.
فالخطاب القواتي الحالي، هو تصادمي مع المقاومة، وليس تصالحياً مع الداخل اللبناني، وعلى وتيرة عالية من العدائية ضد سوريا، وهو ما يؤشر الى ان القوات تعزل نفسها وتحاول إخراج تمثيلها من الحكومة التي تحفظت على بيانها الوزاري الذي اعتبر ان الدفاع عن لبنان، يقوم به الجيش والشعب والمقاومة، وهذا الموقف يضعها خارج الوحدة الوطنية، وهو العزل بنفسه.
والسؤال هو، هل فعلاً ستعرض القوات نفسها للعزل، وهل سيقودها رئيسها الى هذا الموقع دون الاستفادة من تجارب سابقة حصلت معها، ومع غيرها؟
في المعلومات، ان قيادة القوات، تحاول ان تقرأ التطورات وان رئيسها يدرس التحول بعناية وهو يعلم ان المراهنات على الخارج لن تفيد، وينتقد في مجالسه مراهنة بشير الجميل على اسرائيل، كما يستذكر هو نفسه، انه اخطأ في تقديراته مطلع التسعينات من القرن الماضي.
من هنا فان ما يتم تداوله نقلاً عن مصادر جعجع، انه يقيس الأمور جيداً، وهو يخشى ان يتم جره الى مكان، يؤدي به من جديد، الى المكان الذي لا يحبه ابداً وهو السجن الذي قضى فيه 11 عاماً وقد دخله لانه ارتكب جرائم أثناء الحرب، ولأنه اخطأ التقدير السياسي، وهو بهذا المعنى، ومنذ خروجه من السجن، لم يصب معه أي موقف او حدث أعلن ، انه سيحصل، فأخطأ في دعوته لإخراج الرئيس اميل لحود من قصر بعبدا، وفشل في النتائج التي ستخرج بها المعارضة محققة مطالبها، كما أصيب بخيبة بعد العدوان الاسرائيلي في تموز 2006، وهو لم يتمكن من دفع حلفائه الى انتخاب رئيس للجمهورية من قوى 14 آذار بالنصف زائداً واحداً، وراهن على أشياء كثيرة وخسر.
وهو يدرك ان التدريب والتسليح لا يفيد احداً في ظل تمسك اللبنانيين بالسلم الأهلي، وان الميليشيات لم تعد بضاعة يمكن الترويج لها، كما ان المقاومة وسلاحها عصية على اسرائيل وأميركا، ولا يمكن لأي طرف لبناني ان ينزعه، وهو الدرس الذي تعلمه الجميع، بدءاً من العدو الاسرائيلي.
وليس من طريق أمام “القوات اللبنانية” سوى الاستمرار في خط الوفاق، وان تبتعد عن التحريض على سلاح المقاومة، وان تنتهج نهج جنبلاط بعد خمس سنوات أضاعها في رهانات خاطئة، عاد بعدها الى رشده السياسي يهتدي ببوصلة المقاومة، ويحج الى سوريا كحاضنة للعمل القومي.
Leave a Reply