أشعر بالحسرة وأنا أتابع ما يتلبد من غيوم في سماء وطننا العربي. وأشعر بالحسرة وأنا أشاهد الصراع الطائفي يحتل صدارة الصراع في الوطن العربي، ويحول الأنظار عن الكفاح من أجل التخلص من السيطرة الأجنبية، ومن أجل التحرر من الدكتاتوريات، والإحتلال الذي يغزو وطننا العربي في أكثر من إتجاه.
أشعر بالحسرة وأنا أشاهد الدماء العربية تسيل على أيد عربية. أشعر بالحسرة وأنا أقرأ كيف نجحت الصهيونية والغرب وبعض عملائهما من العرب، في توجيه أنظار الكثيرين عن تطلعات الشعوب العربية للتحرر وبناء مستقبل زاهر، إلى صراعات طائفية داخلية تهدد المستقبل العربي.
أشعر بالحسرة وأنا أرى بعض العرب يسقطون قضية العرب الأولى فلسطين إلى مرتبة ثانية وثالثة، فاتحين المجال أمام إسرائيل في سرقة المزيد من الأراضي وتهويدها. وأشعر بالحسرة عندما أقرأ أن البعض لا يفهم بعد ما معنى “تهويد الأرض” ويعتبرون القضية الفلسطينية مجرد “أوهام”.
لقد برهن الإنسان العربي على مدى عقود، بأن الإنتماء القومي العربي يقف في طليعة أولوياته. فعندما غزا الفرنجة المنطقة وقفت القبائل العربية المسيحية، والمسيحيون العرب بشكل عام يحاربون إلى جانب المسلمين غير عابئين بأن الفرنجة يرفعون الصليب كشعار لهم، وكان الهدف المشترك هو طرد المحتلين والغازين من الديار العربية.
وعندما نشبت الحرب بين العراق وإيران، هب أبناء الشعب العراقي بجميع طوائفهم، وأديانهم بالمشاركة في الدفاع عن وطنهم. وكما هو معروف فإن الجيش العراقي في حينه كان يضم نسبة كبيرة من العرب الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية، ولم تقف الطائفية حجر عثرة لمنع تحقيق إنتصار قومي عربي.
وربما من المفيد إعادة التذكير بقصة البطل جول يوسف جمال المسيحي الأرثوذكسي، عربي القومية، وسوري الجنسية. ففي ليلة الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، إبان العدوان الثلاثي على مصر، إلتقط جول ورفاقه في البحرية بثا فرنسيا للسفينة الحربية “جان بارات” العملاقة، وكانت أول سفينة مزودة برادار في العالم. وكانت مهمتها عندما تصل بالقرب من شاطئ بورسعيد أن تدمر ما تبقى من المدينة التي كادت أن تكون مدينة أشباح بعد قصف سلاح الطيران الملكي والبحرية الملكية البريطانية لها.
عند ذلك، طلب جول من قائده جلال الدسوقي أن يسمح له الذهاب بدورية إلى منطقة السفينة الفرنسية، ورغم أن القانون يمنع منح غير المصري المخاطرة بنفسه سمح له الدسوقي. فركب زورق طوربيد وتقدم من السفينة العملاقة التي كانت قد وصلت إلى البحر الأبيض في نفس اليوم 4/11/1956، وقام بتفجيرها بعملية فدائية إستشهادية، وغرقت “جان بارات”. (المعلومات من الموسوعة الحرة ويكيبيديا).
ولا أعتقد أن الشهيد جول جمال خطر بباله في تلك اللحظة أن يفكر بأنه مسيحي يدافع عن بلد مسلم سني، كل ما كان يفكر فيه هو كيف يفشل العدوان الثلاثي على الأراضي العربية، وحافزه كان: قوميته العربية.
وهل خطر ببال أي إنسان عربي، وحتى غير عربي، أن الذين كانوا يقاتلون إسرائيل في حرب 2006 هم من الشيعة؟ وهل الإنتصار الذي حققته المقاومة في تلك الحرب، والذي تشهد إسرائيل نفسها به، وهو إنتصار شيعي؟
ولو إتبع الفلسطينيون فلسفة الطائفية، لما وصل الدكتور جورج حبش إلى منصب قيادة حركة القوميين العرب، ومن ثم قيادة ثاني أكبر منظمة فلسطينية “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، وهو مسيحي ولد في مدينة اللد. ولما وصل نايف حواتمة، المسيحي الأردني والذي ولد في مدينة السلط إلى منصب رئيس “الجبهة الشعبية الديمقراطية”. ولكن الهم الأساسي كان البُعد القومي، وتحرير الوطن.
وقد إستطاع الصراع الطائفي الديني في المنطقة تشويه الكثير من الحقائق، ومنع رؤية الفرق بين الأحداث الجارية والأبعاد المستقبلية. فمثلا عندما نتحدث عن إحتلال وتهويد وإستعمار وإستيطان، يجب أن نضعها في خانتها الحقيقية. فمثلا هناك الكثير من الأراضي العربية التي قطعت من الوطن العربي وأصبحت أرضا غير عربية، رغم المطالبة المستمرة بإعادتها: مثلا لواء الإسكندرونة، والذي احتلته تركيا عام 1939. والجزر العربية الإماراتية أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى التي احتلتها إيران في عام 1971. ومنطقة الأحواز (عربستان) إحتلتها إيران بمساعدة الإنكليز عام 1925. وطبعا هناك الإحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين العربية ومرتفعات الجولان السورية ولا حاجة للشرح فلدى القارئ الكثير من المعلومات.
فمنذ بدأت الحركة الصهيونية نشاطها في أواخر القرن التاسع عشر، وهي تعمل ليس فقط للسيطرة على أراضي فلسطين، بل تهويدها، عن طريق طرد السكان وهدم القرى ومعالم عربية أساسية فيها، ومن ثم منحها أسماءا يهودية وبهذا تصبح الأرض العربية أرضا يهودية.
وتصلني عن طريق الإنترنت مقالات كثيرة ومتنوعة، وفي كثير من الأحيان يسيطر الكره والتعصب الطائفي على عقلية الكاتب حيث يمزج بين الطائفية والقومية. مثلا وصلني مقال عنوانه: أيهما أخطر تهويد القدس أم تشييع بغداد؟ وله مقدمة قصيرة تنتهي بهذه الجملة: “لقد حان الوقت للتخلص من أغلال وأوهام القضية الفلسطينية”. وأعرف مسبقا أن من يكتب مثل هذه الجملة لا يمكن إقناعه، ولا يمكن إلا أن يكون قد أصيب بهزة عصبية أفقدته رؤية الفارق الكبير. هل القضية الفلسطينية أوهام؟
فلو كان العنوان “تهويد القدس وأيرَنة (إيران) بغداد” لما كان عندي أي تحفظ في تقبل المقال. فمن المفروض على كل عربي قومي أن يحارب أي احتلال وأي سرقة لأراض عربية. فالقصد بالتشييع هو أن تصبح بغداد تحت حكم شيعي وليس سني ولكن معنى ذلك أن بغداد، تحت الحكم الشيعي ستبقى عربية القومية، وأي إنحراف عن ذلك يجب مقاومته بكل الطرق والأساليب، في حين تهويد القدس تعني سلخ الأرض العربية عن عروبتها وتهويدها.
وهذا الخيال غير ناضج في فهم أبعاد الفرق بين التهويد والتشييع. عندما تصبح الأرض يهودية، لا يحق للعرب العودة إليها أو السكنى عليها إلا بالقوة والإنتصار. ولكن عندما تبقى الأرض عربية وينتهي الصراع الداخلي بشكل أو آخر، يمكن لكل من ترك العودة إلى أرضه. مثلا هناك أكثر من مليون لاجئ عراقي في سوريا نتيجة الغزو الأميركي، فإذا تغيرت الأوضاع يستطيعون العودة إلى العراق، أما الفلسطينيون الذين طردوا أو هربوا من ويل الحرب، ليس فقط لن يستطيعوا العودة إلى أرضهم، بل في عرف الصهيونية خسروا الأرض ايضا. هذا فرق كبير ومهم، فكيف يمكن إغفاله؟
إن الموقف العربي القومي، (وليس القصد لحركة سياسية بالإنتماء) هو التصدي لأي تدخل أجنبي، والدفاع عن أي قطعة أرض عربية، والعمل على إقامة الدولة العربية القومية، دولة تسودها الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، دولة متحررة من مناطق النفوذ، والتدخل الأجنبي، دولة بعيدة عن التعصب الديني والطائفي.
* كاتب وصحافي فلسطيني يقيم في واشنطن.
Leave a Reply