وليد مرمر
يقف الرئيس بوتين خلف نافذة الجناح الشمالي للكرملين ويسهب النظر بعيداً نحو «ليننغراد» حيث رياح البلطيق الخريفـية أخذت بتعرية الأشجار وبدأت مياه نهر «النيفا» النابع من بحيرة «لادوغا» بالتجمد رويدا.
«ليننغراد» مسقط رأس بوتين ومدينة طفولته وشبابه لم تزل تحتفظ بإسمها القديم فـي ذاكرته وهو لم يعتد بعد على «سان بطرسبورغ» أو هو لم يرد أن يعتاد عليها. فالمدينة التي هزمت ألمانيا (وفنلندا رغم أن المؤرخين يهملون ذلك) فـي حصار دام سنتين ونصف والتي شارك فـي الدفاع عنها والده لم تزل فـي وجدانه تحتل حيزا «وجوديا» يفصل بين هزيمة الإتحاد السوفـييتي أو نصره.
لقد أراد الألمان محو المدينة من الوجود لا احتلالها كما تشير الوثائق لأن ذلك كان سيكلفهم تبعات ملايين من الليننغراديين فـي المدينة فكان الحصار عبارة عن جريمة إبادة بكل ما للكلمة من معنى تخلله قصف وتدمير للبنى التحتية والمستشفـيات والمدنيين فضلا عن الحصار الغذائي (رويت تقارير موثقة عن حوادث لأكل لحوم البشر ولو فـي إطار محدود) مما أسفر عن مصرع ثلاثة ملايين جندي ومدني من الطرفـين. هذه هي المدينة التي تربى بوتين فـي شوارعها وأتم دراسته للقانون فـي جامعاتها وتركت بصماتها فـي وجدانه. «الحرب العالمية الثانية كانت حربا عبثية بكل ما للكلمة من معنى والحرب السورية ليست أقل عبثا» فكر بوتين فـي قرارة نفسه. وروسيا اليوم ليست بأضعف من روسيا الحرب الأولى والبرهان: الشيشان، جورجيا، أوكرانيا وأخيرا وربما ليس آخرا سوريا.
نعم ربما ظن البعض أن مثال ليبيا، حيث كانت روسيا مراقبة أكثر منها مشاركة، سيتكرر فـي سوريا وبالتالي ستُمرر المشاريع التدميرية على مرأى من ضابط «الكي جي بي» السابق ورئيس «مصلحة الأمن الفدرالي» الأسبق. ففضلا عمّا يربط روسيا وسوريا من اتفاقات ومعاهدات فإن لروسيا مصلحة جيوسياسية فـي المياه الدافئة فـي المتوسط التي تملك فـيها قاعدة بحرية بطرطوس إضافة إلى الشروع ببناء قاعدة جوية فـي اللاذقية. كما أن دمشق هي مركز الأورثوذكسية المشرقية العالمي (١٢ مليون فـي بلاد الشام والمغترب)؛ وهي على تماس واضح مع الأورثوذكسية الشرقية التي ينتمي إليها بوتين. وبالتالي فهو معني أخلاقيا بالا يحدث لمسيحيي سوريا من القتل والتهجير ما حصل لمسيحيي العراقي. هذا لو أردنا العمل بالمثالية السياسية. ولكن إن شئنا أن نطبق «الريلبوليتيك» أو الميكيافـيلية فللدكتور بوتين -دكتوراه فـي الإقتصاد- مصلحة أخرى للتدخل فـي سوريا تتمثل فـي الصراع على مراكز الطاقة فـي المنطقة، لاسيما الغاز الذي هو بديل الطاقة الطبيعي للنفط. وهنا تتضارب أو تتقاطع مصالح معظم لاعبي المنطقة الإقليميين بدءا من قطر والسعودية مرورا بسوريا وتركيا وإيران وصولا إلى أذربيجان وتركمانستان وروسيا.
إن العالم لا يفهم إلا لغة القوة وهو ما يجيده بوتين بطل «السامبو» (مزيج من الجودو والمصارعة) أيام الدراسة الجامعية. لذا أرسل «سوخوياته» لتعيد التوازن إلى الصراع السوري بعد أن كادت الدفة لتميل إلى المجموعات الإرهابية فـي بعض المناطق الشمالية.
نحن نعيش انهيار «سايكس-بيكو» كما يرى نعوم تشومسكي. أو هو بالأحرى «سايكس-بيكو-سازونوف». فبرغم أن وزير خارجية روسيا آنذاك «سيرغي سازونوف» لم يوقع على الإتفاق إلا إن روسيا كانت موافقة ضمنيا عليه، وتبعا لذلك فقد كان من المقرر أن تُعطى روسيا إسطنبول والمضائق التركية والولايات العثمانية الأرمنية. لكن تم حرمان روسيا لاحقا من هذا الإنتداب بعد انهيار القيصر وثورة البلاشفة الذين وقعوا سلاما منفصلا فـي ١٩١٨. وقد تم بعدها تفويض مناطق الإنتداب الروسية إلى الولايات المتحدة فـي عام ١٩١٩، لكن حلم أميركا بالسيطرة على بعض مناطق آسيا الصغرى لم ير النور إثر رفض مجلس الشيوخ الأميركي فـي عام ١٩٢٠ التصديق على المعاهدات التي وقعت بعد الحرب العالمية الأولى.
بين «سيرغي» الأول الذي حُرم من «غنائم» الحرب الأولى و«سيرغي» الثاني (لافروف) الذي يقود السياسة الخارجية لبوتين من الواضح أن المنطقة تشهد إعادة لرسم الحدود الجيوبوليتيكية وإعادة لتوزيع الغنائم بين اللاعبين الكبار. وفـي الذكرى المئوية «لسايكس بيكو» فـي ٢٠١٦ من الجلي أن هذا الإتفاق أصبح فـي مرحلة الإحتضار وهو سيلفظ أنفاسه الأخيرة. وروسيا التي كانت الخاسر الأكبر فـي الشرق الأوسط بعد الحرب الأولى أصبحت اللاعب الأقوى بعد الحرب الباردة بفضل «كاردينالها الرمادي»، اللقب الذي أُطلق على بوتين خلال عمله فـي المخابرات السوفـياتية.
Leave a Reply