وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
في غمرة ما يعانيه اللبنانيون من أزمات تشمل كل تفاصيل حياتهم اليومية، برز إنجاز أمني كبير قامت به الأجهزة الأمنية كنقطة ضوء في بحر الظلام الذي يغمرهم.
فقد أعلن لبنان رسمياً، يوم الإثنين الماضي، عن ضبط 17 شبكة تجسس ذات بعد محلي وإقليمي، في واحدة من أكبر العمليات الأمنية التي ينفذها فرع المعلومات منذ العام 2009 الذي شهد انهياراً لشبكات التجسس العاملة لصالح إسرائيل على الأراضي اللبنانية إثر تعاون وثيق بين الأجهزة اللبنانية والمقاومة، ما مثّل يومها ضربة كبيرة للاستخبارات الإسرائيلية انعكست انكفاءً لنشاطها على الساحة اللبنانية.
تفكيك
الخيوط الأولى للعملية تكشفت قبل نحو خمسة أسابيع، حين أبلغ ضابط في «فرع المعلومات» قيادة الفرع بأن شكوكاً تحوم حول تحركات مشبوهة لأحد الأشخاص، ما استدعى متابعة ورصداً للشخص المذكور أفضيا إلى التأكد من ارتباطه بشبكة تجسس إسرائيلية.
وبناء عليه، بدأ الفرع أكبر عملية أمنية في تاريخه ضد التجسس الإسرائيلي، وتمكّن خلال أربعة أسابيع من وضع يده على ملفات تتعلق بالعشرات من المشتبه في تورطهم بمدّ إسرائيل مباشرة أو بصورة غير مباشرة، بمعطيات تتعلّق بأهدافه لا تنحصر فقط بجمع معطيات عن المقاومة ومراكزها، بل بعملية مسح شاملة تطال أيضاً قوى المقاومة الفلسطينية الموجودة في لبنان، ولا سيما حركة «حماس».
وأظهر التوسع في التحقيقات مفاجآت كثيرة، إذ اكتشف «فرع المعلومات» وجود اختراق لإسرائيل داخل الفرع نفسه، وفي موقع شديد القرب من قيادته. وتبيّن من التحقيق مع المشتبه به أن هدف الاختراق جمع معطيات مما يسمعه بحكم موقعه، وتحديد هويات ضباط في الفرع والأدوار التي يقومون بها.
كما تبيّن وجود خرق في «حزب الله» تمثل في تجنيد أحد عناصر التعبئة في الحزب (وهو من بلدة جنوبية) شارك في مهام في سوريا. وقد أوقف جهاز أمن المقاومة المشتبه به، وتبيّن بالتحقيق معه أنه جُنّد بواسطة منظمة ادّعت أنها تعمل لمصلحة الأمم المتحدة، وتقوم بأعمال إحصاء ودراسات واستطلاع رأي.
إضافة إلى ذلك تم اكتشاف مشتبه به سوري موجود في دمشق، وقد نسّق جهاز أمن المقاومة مع الأجهزة الأمنية السورية لتوقيفه. وقد أقرّ بأنه كان يعمل على رصد مقار مدنية وعسكرية وتجارية، ويوفّر خرائط طرقات ومبان في العاصمة السورية، من دون أن يعرف الهدف من وراء جمع هذه المعلومات.
كما تبيّن أيضاً أن إسرائيل تمكنت من اختراق عدد من العاملين في منظمات وجمعيات غير حكومية وتجنيدهم لجمع معطيات عن الوضعين السياسي والاجتماعي، ومعلومات عن عقارات ومنازل في الضاحية الجنوبية وفي الجنوب.
وبالإضافة إلى المعلومات التقليدية عن مراكز «حزب الله» وبعض مراكز الجيش، ومعلومات عن أفراد في الحزب والاستفسار عن علاقات لأشخاص مع أفراد ومسؤولين في الحزب، تم أيضاً اكتشاف وجود عمل مركّز على مجموعات حركة «حماس» في مخيمات لبنان، مع طلب المشغلين رصد قدوم أشخاص فلسطينيين من خارج المخيمات إليها، ورصد بعض الأمكنة التي يمكن أن تكون مخصصة للاستخدام العسكري.
الموقوفون
إذن، شبكة العملاء توزعت على مختلف الانتماءات والمناطق، ولم توفر الأجهزة الأمنية نفسها، فمن بين الموقوفين ضابط أمني رفيع سبق أن اعتُقل منذ سنوات بتهمة التعامل لعدة أشهر، خرج بعدها من السجن وهو العقيد الركن منصور دياب.
ومن بين الموقوفين أيضاً مهندسو اتصالات طُلب من أحدهم التخطيط لتأسيس مراكز اتصالات في بيروت. كذلك هناك شبان يافعون لا خبرة لهم في أي مجال كانوا ينفذون ما يُطلب منهم من دون معرفة الجهة التي يعملون معها ولا الأهداف.
في موضوع كيفية التواصل بين المشغلين وعملائهم أظهرت التحقيقات أنه كان يتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال مواقع إلكترونية أو غرف دردشة. وتتحدث التحقيقات عن أن دافع البعض من الموقوفين كان الحاجة المادية الملحّة. وفي ما يتعلق بالمبالغ التي تقاضاها هؤلاء العملاء فقد كانت تتم عبر شركات تحويل الأموال مثل «أو أم تي» و«وسترن يونيون»، وعلى شكل مبالغ صغيرة تجنباً للفت الأنظار. ومن بين الموقوفين أيضاً من نجح في اختراق بيئة المقاومة ونسج علاقات مع بعض أفرادها، سهّلت له حركة التنقل في مختلف مناطقها، كذلك تبيّن أن أحد الموقوفين كان يعمل لدى شخصية بيروتية معروفة.
اعترافات
اعترافات بعض الموقوفين كانت لافتة، فأحدهم وهو من مدينة طرابلس، برّر تعامله «بكُرهه» لـ«حزب الله»، حيث كان هو المبادر للاتصال بالعدو مبدِياً استعداده «للقيام بأي شيء ضد الحزب»، ما استدعى نقله إلى الأردن وإخضاعه لدورات تدريبية على استخدام طائرات «الدرون»، حيث زوّد بإحداها واستخدمها فعلاً لتنفيذ إحدى المهمات.
موقوف آخر كان يعمل في إحدى الجمعيات التي ظهرت على الساحة بعد «حراك 17 تشرين» اعترف بتلقيه أموالاً لشراء آلاف الكمامات لتوزيعها بعد أن يطبع عليها عبارة «كلن يعني كلن نصرالله واحد منن».
ثلاثة من الموقوفين اعترفوا أيضاً بأنه طُلب منهم استئجار عدد من الشقق في مناطق مختلفة وترك مفاتيحها في أماكن معينة، كما طُلب منهم الاستحصال على إفادات عقارية لمعرفة أسماء مالكي تلك العقارات.
وفي سياق الكشف المستمر عن هويات بعض الموقوفين من خلال تسريبات إعلامية شبه مؤكدة، عُلم أن أحد الذين أوقفوا في مدينة صور كان قد أنهى دراسته المهنية كـ«حلونجي» فجرى تجنيده من خلال إغرائه بعقد عمل في إحدى الدول الأوروبية.
موقوف ثانٍ في الخمسينيات من العمر، من بلدة المنصف في قضاء جبيل، تعاون مع موقوف آخر في خلية أدارها أحد المشغّلين تحت اسم عبدالله قاسم، وكغالبية العملاء، قاما بتصوير عشرات النقاط والمباني السكنية في صور وصيدا وطرابلس وبيروت وكسروان، كما طُلب منهما جمع معلومات تتعلق بإحدى المعارك التي خاضها الجيش الإسرائيلي في صور وخسر فيها ثلاثة جنود.
ومن جملة الموقوفين أيضاً طالب جامعي يدرس هندسة الاتصالات في «الجامعة اليسوعية»، وعده المشغلون بالحصول على فرصة عمل في الخارج مقابل إرسال شرائح هاتفية إلى الخارج وتقديم خدمات متنوعة.
أما أبرز الموقوفين وربما كان أهمهم، هو مؤسس ومدير إحدى كبريات شركات توزيع الرسائل النصية بكميات ضخمة إلى هواتف اللبنانيين، مع كل ما يتضمنه ذلك من تخزين لأرقام الهواتف والداتا، وكانت لعائلته ارتباطات مع ميليشيات العميل أنطوان لحد خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني. ويقول مقربون من هذا الموقوف إنه لم يكن منتمياً أو مؤيداً لأي من الأحزاب، وهو ما سمح له بالتعامل مع الكثير من السياسيين من مختلف المشارب والتوجهات.
وكما جرت العادة في لبنان لا بد للتدخلات السياسية من أن تأخذ مكانها في أي حدث مهم، سواء كان أمنياً أم سياسياً، حيث سعت مرجعيات سياسية ودينية وحتى قضائية، مستغلة نفوذها إلى إطلاق سراح بعض الموقوفين، ومن بينهم شاب من بلدة حملايا توسطت عائلته لدى ابن البلدة، البطريرك الماروني بشارة الراعي، للتدخل والعمل على إطلاقه. كما تولّى أحد المقرّبين من البطريرك الاتصال بالجهات الأمنية لمعرفة حيثيات توقيف مشتبه به آخر، وهو ناشط بارز في جمعيات المجتمع المدني.
انكشاف أمني
لطالما كان لبنان مكشوفاً أمنياً ومرتعاً لعدد كبير من أجهزة الاستخبارات العالمية، لكن موجة التطبيع العربي الأخيرة فاقمت من احتمال اختراق الاستخبارات الإسرائيلية للساحة اللبنانية، لترافق هذا التطبيع من تنسيق أمني على أعلى المستويات بين أجهزة تل أبيب وبعض البلدان العربية التي لديها نفوذ في لبنان. وقد بلغ الأمر بمملكة البحرين –مثلاً– حدّ الطلب من «الحليف القديم الجديد» إسرائيل هيكلة أجهزتها الأمنية! هذا الأمر هو بمنزلة جواز مرور عربي، فهو يتيح لتل أبيب النفاذ إلى قواعد البيانات البحرينية والتي على صلة بطبيعة الحال مع كل أجهزة الاستخبارات العربية، ما يعني حكماً أن الإسرائيلي بات يمتلك كل ما يريد من معلومات مهمة وغير مهمة! هذا فضلاً عن الحلف الاستراتيجي العميق بين دولة الإمارات العربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي والذي وصل إلى حد إمكان منح الجنسية الإماراتية للإسرائيليين! هو أكثر من اختراق إسرائيلي للأمن العربي، إنما هو إمساك بمفاصل هذا الأمن، حيث تستطيع تل أبيب من خلاله الوصول إلى أدق التفاصيل بل إلى أكثر مما كانت تحلم بالوصول إليه!
ويضاف إلى خطر التعاون العربي–الإسرائيلي، خطر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان، والتي قد تبرر للبعض التعامل مع الاحتلال، إذ أن هناك مقاربتين لبنانيتين متناقضتين تجاه التعامل مع إسرائيل، حيث ترى شريحة كبرى من اللبنانيين، في إسرائيل عدواً مبيناً يجب مقاومته حتى الرمق الأخير، بينما يراها البعض جاراً وحليفاً يمكنه المساعدة في التخلص من المقاومة نفسها.
في الختام، لا بد من الإشارة إلى أنه مع تسلم الجهات القضائية لملفات بعض الموقوفين، تم تداول معلومات عن استمرار عمليات الدهم في مناطق لبنانية مختلفة أسفرت عن توقيفات جديدة.
Leave a Reply