في كل مرة يقف علي عبدالله صالح أمام الميكرفون ليلقي خطاباته التاريخية (حسب النفاق الإعلامي لنظامه)، أبحث باهتمام في أحرف الكلمات التي أستمع إليها عن تطور ما، ليس في رؤية ونهج النظام اليمني ككل، على اعتبار أن خطابات الرجل الأول في أي دولة تدلل على ذلك وتكتسب أهمية كبيرة خاصة في لحظات الشدائد والمحن، بل أبحث أيضا عن أي تحسن في أسلوب المتحدث وطريقة طرحه للقضايا الوطنية والخلافية مع “غرمائه” والذين يتلقون من الألفاظ والتهم والشتائم والتحقير ما يجعل كل عاقل يتسائل عن إدراك علي عبدالله ومن حوله من أركان نظامه ومستشاريه الكثر، لخطورة ما يقوله على نفسه أولا، حيث تهتز مكانته وصورته في نفسية الشعب (إن كان يلقي لذلك بالا) بعد كل خطاب يلقيه، ولهذا ليس من الغريب أن يلاحظ المرء قيمة الخطابات الرئاسية لدى الأنظمة والشعوب الأخرى، حيث تزيد أو تنقص شعبية الرئيس بعد خطابه المتطرق لحالة البلاد والموضح نهج ورؤية النظام القائم فيها، وعليه يحرص رؤساء تلك البلدان على التقيد بالخطاب المقدم لهم لأنهم يعلمون جيدا أن كلماتهم تمثل البلاد بأكملها ولا تعبر أبدا عن وجهة نظر الرئيس الشخصية والخاصة به وحده.
في تلك الأنظمة المدركة للقيمة الكبيرة لخطابات رؤسائها,تجد فريق متخصص مهمته الدائمة كتابة ووضع الخطابات الرئاسية، بأسلوب يراعى فيه وضع البلاد وحالها سياسيا واقتصاديا ونفسيا، ثم علاقتها مع الدول الأخرى ورئيتها لمشاكل العالم، ويتكون ذلك الفريق من أبرع الكتاب والمفكرين واللغويين والمستشارين السياسيين والإقتصاديين، وبجانبهم أيضا خبراء متخصصين يدربون الرئيس على طريقة الإلقاء، فيعلمونه كيف يبدأ ومتى يبتسم وأين يظهر حزنه وكيف يوضح حزمه وقوته وكيف ينهي كلمته، وبعد خطابه يتم الإستماع إليه من قبل ذلك الفريق للبحث عن أي خطأ وقع فيه الرئيس حتى يتم تداركه في الخطاب القادم.
ذلك الأسلوب مطبق في الكثير من دول العالم التي تحترم مكانتها وتسعى دائما للظهور بصورة لائقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، كما أنه أيضا ساري المفعول في العديد من المنظمات الهامة في العالم كـ”حزب الله” اللبناني وحركة “حماس” الفلسطينية، لذلك يجد المتابع أهمية خاصة لخطابات قادة أميركا وسوريا وإيران وتركيا كدول، و”حماس” و”حزب الله” كتنظيمات لما تحمله كلمات أولئك القادة من قرارات تصل أحيان لإعلان وإيقاف حرب.
في ظروف اليمن الصعبة والمعقدة اليوم، نعتقد أن علي عبدالله صالح بحاجة ماسة وعاجلة للتقيد بذلك المنهج ليعرف ماذا يريد أن يقول قبل وقوفه أمام الميكرفون، كما أنه يحتاج إلى الإبتعاد عن خطبه الإرتجالية لأنه يقع في أخطاء شنيعة لا تحط من قيمة النظام فحسب، بل وتسيىء لليمن واليمنيين في الداخل والخارج، ويبدو من مشهد خطابات صالح أن من حوله يتحملون وزر وخطيئة الهفوات والعبارات والمواقف التي ينطق بها، لأنه ينقل للجماهير ما ينقل إليه باستثناء بعض الكلمات التي تعود عليها وأصبح يكررها دوما وأبداً، حتى وإن لم يكن لها حاجة في سياق الحديث كالوحدة والجمهورية والثورة والخط الأحمر والرجعية والكهنوت.. الخ. ولكي يكتمل سواد المشهد بعيدا عن الأضواء وشاشة التلفاز، يجتمع حول علي عبدالله صالح مستشاريه ومنافقيه ليسمعوه كلاما كله مدح وتبجيل وإشادة بما قال، بل لا غرابة أن يقول له البعض (“اليوم قتلت المعارضة ودمرت الحراك وانهيت الحوثيين وأثرت اهتمام العالم”، مع أن أولئك يعلمون يقينا في قرارة أنفسهم أنه قال كلاما مخالفا لكل ما قالوه.
خطابات وكلمات القادة بمثابة برنامج عمل وقرارت تنفيذ مشاريع وخطوات مدروسة، ولأنها كذلك تحرص الأنظمة والتنظيمات على الوفاء بما يقوله قادتها في خطاباتهم من وعود وعهود موجهة للجماهير والشعوب، كما أنها تمثل رسائل دبلوماسية وعسكرية بين الدول والتنظيمات ولتأكيد ذلك تقف اسرائيل على قدميها منصتة باهتمام شديد لخطابات السيد نصر الله، مؤمنة بما يقوله ومكذبة نظامها وحكومتها لأن نصر الله يفي بكل وعوده التي يوجهها لاسرائيل، وعطفاً على ذلك نقول أن علي عبدالله وأركان نظامه يثرثرون بما لا يعلمون ولا يستندون في ثرثرتهم تلك لأي شيء يؤدي للوفاء ولو بجزء يسير من وعودهم الكثيرة. ولهذا تؤدي تلك الثرثرة إلى تباعد في المواقف واحتقان في أوساط القوى السياسية وتتبخر الوعود والقرارات والتوجيهات بعد الخطاب مباشرة. والأسوأ من ذلك ان أبناء اليمن في الخارج يتلقون من الإحراج ما يكفيهم لأن النظام، على ما يبدو، لم يعلم بعد أن العالم صار “قرية واحدة”، يعرف سكانه ما يدور فيه أولا بأول، ولأنه كذلك فقد تم تبادل عبارة “تفوا عليهم… تفوا عليهم… تفوا عليهم” التي قالها علي عبدالله صالح مؤخراً بين الناس عبر وسائل التواصل، وألحقوها بسؤال لا يحتاج لإجابة لأنها وإن أتت لن تبرر قطعا “تفوا عليهم”، أو تلغي من ذاكرة التاريخ موقفا وعبارة لا تليق أبدا برئيس أو مسؤول وإن بلغ الخلاف بينه والآخرين مبلغا تجاوز كل الألوان
Leave a Reply