معن بشور
… لقد كنا نظن أيام شبابنا أن الطائفـية مرض لبناني مزمن، ولم نقرأ مدى توغلها فـي تاريخنا، بل مدى انتشارها فـي محيطنا والعالم بأسره، فكنا فـي تعاملنا معها سذجاً إلى حد كبير نعتقد أننا إذا أنكرناها باتت غير موجودة، أو إذا طالبنا بإلغائها حصلنا على ذلك بسهولة.
ولعل من المفارقات المؤلمة أن الكثير من أحزابنا وشخصياتنا السياسية والاجتماعية التي عقدنا الآمال عليها لتجاوز التعصب الطائفـي وبناء مجتمع المواطنة قد بات أسير هذا التعصب، بالوعي أو اللاوعي، بل بات يقدم صورة واهنة مترهلة عن أداء بديل للنظام الطائفـي،
والمواطن الذي تشكل الطائفـية سوراً أمام فضاء طموحه، والذي سعي إلى النضال من اجل إزالة هذا السور، بات قابعاً راضياً بما هو فـيه مقتنعاً بأنه «لا مارد ولا عصفور» ليتجاوز «السور وراء السور» كما كتب يوما الشاعر المصري احمد فؤاد نجم وانشد توأمه الفني الشيخ إمام رحمهما الله:
فالتعصب الطائفـي لم يعد سوراً بوجه طموحات اللبناني فقط بل بات سوراً بوجه طموحات لبنان بأسره، الذي يرى معظم عيوبه كامنة فـي توسع هذا التعصب افقياً وعمودياً، فـي الدولة ومؤسساتها، كما فـي المجتمع ومنظماته، فـي الوظائف كما فـي العلاقات الإنسانية، حتى كاد يلتهم معظم الانجازات التي حققها المسار الوطني، فالميثاقية تراجعت أمام المحاصصة، والمقاومة تجري محاصرتها بالتحريض المذهبي والطائفـي البغيض، والتحركات الشعبية المشروعة يجري إجهاضها بإشهار السلاح الطائفـي والمذهبي بوجهها.
أما الفساد الذي يشكو منه أغلبية اللبنانيين، والذي شكل مادة لانتفاضة شبابية مباركة فـي 22 آب الجاري، وبغض النظر عن أي شوائب لحقت رموزه، وجد دائما فـي التعصب الطائفـي ملاذا، فإذا دعى الداعي لمحاكمة إبطاله أو محاسبتهم هب أهل التعصب الطائفـي يشهرون سيوفهم دفاعاً عن الطائفة التي تصبح ملخصة برجل فاسد.
والفساد، وبيئته الحاضنة التي تكمن فـي التعصب الطائفـي، آفة لا ينحصر تأثيرها بين فاسد ومفسد ومواطن متضرر بل يصبح آلية لتفكيك الأوطان والمجتمعات برمتها لأنه يستنزف القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية ويسقط الحصون التي تحتمي بها الأوطان والمجتمعات فمع الفساد المحمي بالعصبية الطائفـية، تسهل كل أنواع الاختراقات الأمنية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية.
لكن ارتباط الفساد بالتعصّب الطائفـي لا يعني غيابه عن مجتمعات لا تشكو بحكم تكوينها من هذه الظاهرة بالذات، لكنها تشكو من عصبيات من نوع آخر.
وإذا كان التعدد الديني والعرقي ٍغنىً لدى العديد من الشعوب والأمم، فان تحوله إلى عصبية أو تعصب بات مصدر ارتباك للمجتمعات واضطهاد للأفراد، ومن هنا ليس التعصب الطائفـي هو المسألة المشكو منها فقط، بل كذلك التعصب القبلي والحزبي والقطري والعنصري وكل ما يشكل مصادر للعنف الأهلي المصحوب بثقافة إقصاء الآخر وتجريده من أبسط حقوقه.
من هنا فتعاملنا مع الطائفـية يحتاج إلى تعامل من منظور أوسع لأنه تعامل مع كل العصبيات التي تمزق مجتمعاتنا حين تتحول إلى حال اقصائية للآخر. وبالتالي يصبح رفض الطائفـية دون رفض العصبيات الأخرى جزءاً من المشكلة بدلاً من إن يكون جزءاً من الحل.
فالحرب على الطائفـية غير المحصنة برؤى وحدوية جامعة وديمقراطية عصرية، تصب الزيت على نار الطائفـية خصوصاً حين تبدو وكأنها حرب طائفة بعينها أو حزب بمفرده أو فئة دون أخرى، وكلنا نذكر كيف أن لبنان كان منقسماً بين فئتين أحداهما تشكو من الغبن والأخرى من الخوف، فأوصلتنا أنواع معينة من «الحروب» على الطائفـية إلى أن الجميع بات يشكو اليوم من الغبن والخوف معاً…
فالخروج من الطائفـية بهذا المعنى يحتاج إلى خطة متكاملة فـيها الثقافـي كما السياسي، الاجتماعي كما الاقتصادي، النفسي كما الديني، وكل مقاربة ناقصة لهذا الملف تؤدي إلى تغذية هذا المرض، وإعلاء الأسوار بين اللبناني وأخيه اللبناني.
والخروج من الطائفـية يحتاج أول ما يحتاج إلى تنمية الانتماء الوطني، والهوية الجامعة، وتكريس مبدأ المواطنة بكل معانيه، كما انه يحتاج إلى حركات ومؤسسات ورموز وبرامج عابرة للطوائف والمذاهب، لأن حصرها بطائفة أو مذهب، مهما كانت غاية هذه الحركات نبيلة وأهدافها طاهرة، سيؤدي حتماً إلى إعادة إنتاج التعصب الطائفـي أو المذهبي.
والخروج من الطائفـية يستدعي أيضاً خوض معارك نضالية ووطنية تعبّر عن مصالح الجماعة اللبنانية، أو أي جماعة، بكل مكوناتها، فما من شيء يوحد الناس كحرارة النضال وكوعي الهموم المشتركة.
وإنني من الذين يعتقدون أن الانخراط اليوم فـي تحركات شبابية ونقابية وطنية كما هو الحال فـي وسط بيروت كما فـي تحركات هيئة التنسيق النقابية قبلها، رغم محاولات إجهاضها، كما أن السعي لبناء الحركات والتجمعات، والهيئات والبرامج الشعبية الوحدوية الجامعة، وتشكيل شبكة وطنية وقومية واسعة لدرء المخاطر عن المقاومة التي تمثل شرف الوطن والأمة وعنفوانها، يبقى الوسيلة لتحقيق الخطوات المطلوبة بالاتجاه الصحيح وضمان الخروج من التعصب الطائفـي وكل أشكال البعض.
Leave a Reply