كان الشيخ خليل بزّي ألشخصيّة الدينيّة الإسلاميّة البارزة في المهجر الأميركي يُعَدُّ في قائمةِ الجنود المجهولين لدى القارىء العربي إذا استثْنيْنا إجازةَ المراجع العِظام لهُ في زمانه، وفي المهجر فإنّ مجتمعاً إسلاميّاً يحيا بين مجتمَعٍ كبير مختلِف في تقاليدِه، كادَ أنْ يفقدَ أساسيّات مرجعيّتِهِ الشرعيّة، لوْلا انبراء تلك الشخصيّة التي تناولَها المؤلِّف كامل بزّي في البحث والدراسة والأرشفة للإضطلاع بهذه المهمّة. ومن أجلِ إلقاء الضوء على الخلفيّة التي صاحبتْ تأليفَ كتابِهِ عن الشيخ خليل بزّي بمعاونة الأديب الدكتور يحيى شامي إلتقَت «مدارات ثقافيّة» بالمؤلِّف كامل بزّي وأجْرتْ معهُ هذا الحوار:
– كيف تبلورَتْ الفكرةُ لديكم لتدوين هذه السيرة العطرة؟
– من خلال معرفتي بالشيخ خليل بزي إبّان السبعينات، قبل أن يغادر إلى كاليفورنيا، أعجبتُ بشخصيّته وماسمعتُ عنه من صفاتٍ عناوينها البذل بلا حدود والعطاء بدون مقابل، وقيامه بدءاً من منتصف العقد الثاني من القرن المنصرم وبمشاركة الشيخ حسين خرّوب بالتوجيهات والخدمات الدينيّة بدون تفريق بين مذهبٍ وآخر أو قوميّةٍ وأخرى في منطقة ديترويت والتي شملتْ أيضاً الجاليات الإسلاميّة الصغيرة في ولايات الغرب الأوسط وكندا.
لمْ يكتفِ الشيخ بتعليمِ نفسهِ اللغة العربية قراءةً وكتابةً، بل جهدَ على تثقيف ذاته عبر أمّهات الكتب والمصادر المعنيّة بالمعارف الدينية والأدبية وقد حرص -رحمه الله- على إعارتي بعضها من وقتٍ لآخر أضافتْ لي غنىً فكريّاً وروحيّاً كبيريْن، كما خصّني بنصيبٍ وافر من مجموعات الكتب التي أهداها لمعارفِه.
لقد تملّكتْ نفسي سعادةٌ غامرة عندما شدّتني الرغبة في أن أجمع وأدوّن كلّ ما يتعلّق بسيرته لا لإختزانها لنفسي بل لنشْرِها على مَن حولي وتداولها في الذاكرة والوجدان الجمعِيّيْن. أمّا الهدف الأسمى أن لا يصبحَ الشيخ مغموراً طيَّ النسيان بتقادم الزمن. بل إنّ هذه السيرة العطرة تستحقّ أن تصلّ إلى الأجيال القادمة.
– كيف توصّلْتم إلى الوثائق المنشورة فـي مؤلَّفكم؟ هل كانت محفوظةً لدى ورثة الشيخ؟ أم راجعتم بشأنها مصادر أخرى؟
– تعود فكرة إصدار كتاب يتناول سيرة هذا الشيخ الجليل إلى عام 1998، حيث انبثقت الخطوات الأولى لدى مراجعتي لِما أحتفظ به من بعض مدوّنات الأوراق والكتب التي أهدانيها الشيخ. ثمّ تدرّجت الفكرةُ إلى إجراء المقابلات.
وكانت المقابلة الأولى مشتركَةً مع كلّ من الحاج حسين حمود والحاج حسين مقلد في 15 تشرين الثاني 1998 والثانية عام 1999 مع الأديب المرحوم الشيخ عبدالله برّي الذي فضّلَ أن يفردَ كتابةَ مقالة أرسلَها لي بعد أسبوع بيد الشاعر الشيخ يوسف برّي الذي كان له الفضل في ترتيب اللقاء بيننا وقد صدّرَها بعنوان «فقيد الدين والإنسانيّة المرحوم الشيخ خليل بزّي أوّل داعية لأهل البيت (ع) في الجالية العربيّة في ديترويت» وهي على قدر كبير من الأهمّيّة. وحين أعلمتُ بها سماحةَ المرجع الديني الشيخ عبداللطيف برّي طلبها منّي وأوعزَ بنشرِها في صحيفة «العصر الإسلامي» فصدرتْ بعددِها المرقّم 65 المؤرَّخ في نيسان (أبريل) 2009.
وكانت الفكرةُ قد اختمرتْ في العام 2008 عندما أتيحَ لي الحصول على الوثائق الهامّة التي كانت بحوزة بعض أفراد أسرته والتي كانت محفوظةً في خزّانتِه وما إشتملَتْ عليه من أوراقٍ وتقارير بخطِّ يدِه وإجازات من كبار المراجع، بالإضافةِ إلى مازوّدَني به أحدُ أقاربه الكرام من وثائق، وما إستجمعْتُهُ عبرَ التقصّي من مقالات في الصحف العربيّة والأميركيّة التي تتابعَتْ إصداراتُها بدءاً من وصول الشيخ إلى أميركا عام 1913 وحتّى وفاتِه، وكذلك بعض شرائط التسجيل، والكتب العربية والإنكليزية التي تناولَتْ سيرتَه. بالإضافة إلى ما أبْدَتْه لي الأستاذة الباحثة الدكتورة سالي هاول من رعايةٍ وعون في تهيئة جزءٍ من الوثائق.
-من النادر أن يشتركَ كاتبان على إنتاجِ مؤلَّف واحد، وقد نجحتما عبر الجهد اللافت فـي سعة الأرشفة ورصانة الصياغة بإظهار المؤلَّف بما يُرضي غرور وطموح القارىء. أرجو تسليط الضوء على خلفيّة هذا الجهد المشترَك.
– إنّ شريكي في التأليف الدكتور يحيى شامي، وهو صاحب المؤلَّفات التي نيّفتْ على المائة، لم تكن المسافة بيني وبينه قصيّة، إذ تعودُ معرفتي به إلى سنوات اليفاعة المبكِّرة أيّامَ تتلمذي على يديه في السنة الأولى المتوسِّطة مطلع الستيّنات، وبعد عقودٍ ثلاثة إرتبطتْ بيننا وشائجُ المودّةِ والصداقة والثقة المتبادَلة عندما جمعتْنا مجالسُ الأدبِ والشعر التي كنتُ أحرصُ دائماً على ترتيبِها وإقامتِها في منزلي كلّما وفدَ علينا زائرٌ من أهل الثقافة إحتفاءً به وإحاطةً بنتاجِهِ.
لقد أغبطَني د. يحيى، الذي يرتبط بعلاقةِ عشقٍ مع اللغة العربيّة، عندما لبّى رغبتي وبشفّافيّة إنسيابيّة في مشاركَتي بإنجاز هذا المشروع الخيري الثقافي، فجولاته مشهودة في حقول أدبيّة كثيرة وهو الحائز على الخبرة الثرّة في الكتابة والتأليف. لقد أرْزَمْتُ بين يديه جنى السنوات الطوال بمختلف مصادر البحث التي إقتضتْ منّي جهداً جميلاً على مشقّتِه وتقصِّياً متواصلاً مضنياً حيث أضافَ إليها الكثير قبل أنْ يعمدَ إلى تبويبِها وصياغتِها بدقّةٍ بالغة ونقلِها إلى لغةِ الإحتراف الأدبي. وهكذا إجتمعَ فنُّ التوثيق والأرشفة الممتِعَيْن مع منهجِ البحث وفنِّ الأدب، فخرجَ مؤلَّفُنا بالشكلِ الذي يليق بصاحبِ سيرتِه وبالتالي بما يرضي طموحَ القارىء.
– لقد فاتنا، للأسف الشديد، ذكر السيدة الجليلة سالي هاول الباحثة والأستاذة المساعدة فـي «جامعة ميشيغن» أثناء تغطيتِنا لأمسية توزيع الكتاب. هنا من خلالكم نقدم اعتذارَنا لها عن هذا السهو، أرجو إطِّلاعَ القارىء على جهودِكم فـي انضمامِها إلى فريق المتحدِّثين عن منجَز الشيخ الراحل.
– أودُّ بدايةً التعريف بها: فهي الأستاذة المساعدة في مادّة التاريخ، والباحثة في مركز الدراسات العربية الأميركية بـ«جامعة ميشيغن-ديربورن»، وقد توّجَتْ أبحاثَها عام2009 بأطروحتِها المطَوَّلة التي نالتْ عليها شهادة الدكتوراه في الفلسفة والمعنوَنة «المسجد الأميركي.. رؤية جديدة: المسلمون الأوائل ومؤسّساتهم في ديترويت 1910-1980».
تتالَتْ لقاءاتي المطوّلة معها في أكثر من مركز علمي، بحثاً عن سِيَرِ المؤسِّسين الأوائل لمراكز العبادةِ والعمل الإسلاميَّيْن في مناطق ديترويت وجواريِّها عبر التنقيب والتقصّي في الصحف والمجلات والنشريّات العربية والإنكليزيّة التي تزامنتْ فتراتُ إصدارِها مع حياتِهِمْ، ومن بينهم على وجه الخصوص متَرجَمُنا الشيخ المرحوم خليل بزي. كما تبادلْنا الوثائقَ الهامّة التي تناهتْ إلى باقةِ محفوظات كلٍّ منّا ومن بينها الشريط المسجّل الذي ضمَّ متْنًهً مقابَلَة أجْرتْها معه المؤرِّخة ألكسا ناف والمحفوظ لدى الدكتورة سالي وما كنتُ أحوزه من أوراقٍ شتّى بخطِّ الشيخ وإجازات كبارِ العلماء.
– لمْ يتطرّقْ مؤلَّفُكم إلى زيارةِ ممثِّلين عن المراجع فـي النجفِ الأشرف إلى أميركا، هل حصل ذلك؟ أمْ كانت الإتِّصالاتُ تجري عبرَ وسائلِ البريد لوحدِها؟
– لمْ نعثرْ على وثائق أو معلومات تشير إلى مثلِ هذه الزيارات سواءً من المَراجعِ في النجف الأشرف أو من ممثِّلين عنهُمْ، أو من علماء آخرين. ولكنْ كان للشيخ سبْقُ الإمساك على زمام المبادرة فنال شرفَ المعرفةِ والإتّصالِ بهمْ. فما انتهى لديهم إلّا عند موضعِ الإحترامِ والتقدير، تأسيساً على ما قد تناهى إليهِمْ من أخبارِ سيرتِهِ العطرة وانتشار معاني تقواه وسموِّ خلقِهِ بتفاصيلِهما على ألسِنَة أبناءِ الجالية، وكذلك إشادتهم بإنجازاته التي حقّقَها في المغتَرَبِ الأميركي على الصعيدِيْن الديني والإجتماعي ممّا أتاحَ للشيخ فرصةَ الإستماعِ لهم، والأخذِ عنهم، والإفادةِ منهم عبر حضورِ مجالسِهِم ودروسِهِم الفقهيّة إبّانَ فترةِ زيارتِهِ للعراق. وقد أثمرتْ لقاءاتُه بأولئك المراجع والعلماء الأعلام عن إجازاتٍ وإذوناتٍ أو وكالات شرعيّة محدّدةٍ صادرةٍ عنهم بخطِّ أياديهم الكريمة تخوِّلُهُ على العموم بالتصرُّف فيما يتعلّق بالأعمالِ العباديّة الدينيّة والأمور الحسبيّة الدنيويّة، وهي التي إنْ دلّتْ على شيء فإنّها تؤشِّر إلى الثقة التي حظيَ بها الشيخ لديهم. وإنّ من أولئك على سبيلِ المثال -لا الحصر- السيّد محسن الطباطبائي الحكيم، السيّد محسن الأمين العاملي، السيّدعبدالحسين شرف الدين، الشيخ محمدرضا آل ياسين والشيخ عبدالكريم الزنجاني.
– هل لديكم مشاريع تأليف جديدة على هذا النسق؟
أم لديكم مشاريع كتابة أخرى؟
– أرجو أنْ يوفِّقَني اللهُ عزَّ وجلّ لأرشفَةِ حياةِ العلّامة الشيخ المرحوم محمد جواد شِرّي وبودّي هنا أنْ أؤكِّدَ حاجتي إلى معاوَنة «المركز الإسلامي في أميركا» من أجلِ تحقيق هذا الإنجاز.
/
من المحرِّر: ندعو العليَّ القديرأنْ يمتِّعَكم بالصحة الكاملة والعافية الدائمة لتحقيق مثل هكذا إنجازات نبيلة. وبدورِنا هنا نقفُ إلى جانبِكَ موجِّهين نداءَنا الحميم إلى القيِّمين على المركز الإسلامي لأخذِ دورِهِ ومكانتِهِ في تلبية هذا الطلبِ المفضي إلى حيث تكتنز المكتبة الإسلاميّة بسِيَر العلماء المعاصرين الأفذاذ.
Leave a Reply