حين يتحدث المال، تسكت الأصوات جميعها وتسد الأفواه، إذ أن حكمة العصر لم تعد كما كانت عليه في أواسط القرن الماضي: لا صوت يعلو فوق صوت البندقية. أصبحت الآن لا صوت يعلو فوق رنين المال، وعليه فالمراقب للوضع الفلسطيني يلحظ أن هذا الشعب الذي كان ملتحماً كالبنيان المرصوص في ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين كانت البندقية هي شعار التحرير، ما لبثت أن تغيرت المعادلة ليعانق البندقية غصن الزيتون، رفعه الزعيم الراحل ياسر عرفات لأول مرة في مبنى الأمم المتحدة داعياً الإسرائيليين أن يختاروا، فاختاروا المدفع والدبابة والطائرة المقاتلة، دخلوا بيروت واقتلعوا منظمة التحرير من على حدودهم.
عند تلك الحدود سقطت البندقية وغصن الزيتون، لتحل مكانهما الحجارة الفلسطينية التي اعتبرها الشاعر العربي الكبير نزار قباني كما لو كانت حجارة من الماس، أو كثروة تفجرت من الأرض المباركة، حملها صانعو السياسة الفلسطينية في حقائبهم وداروا بها في أسواق النخاسة العالمية، وقايضوها بسلطة في غزة وأريحا ومن بعدهما مربعات مرقمة أ، ب، ج، في الضفة الغربية سلطة تتحكم بالسكان ولا سيطرة لها على الأرض، باعتبارها أرض “ميعاد” لا يصح السيطرة عليها ولا استغلال ثرواتها من قبل شعب غير “المختار”.
حينذاك اكتشف الفلسطينيون أن سبلهم للحرية والانعتاق من الاحتلال البغيض أجهضت، فاتجهوا لعمليات فدائية أوقعت خسائر فادحة بالإسرائيليين نجم عنها انسحاب إسرائيلي من غزة من جانب واحد، وكاد ذلك الطراز من العمل الفدائي يؤتي أُكله لو استمر ويسفر عن تحرير الضفة الغربية، لو لا أن تدخلت الولايات المتحدة وسنت شريعة بتحريم هذا النوع من الحروب الدفاعية، وصنفته نوعاً من الإرهاب، وجيشت ضده حملات وأسقطت أنظمة أدى بها إلى تداعي اقتصادها واقتصاد العالم برمته، لا لشيء إلا لحماية الكيان الصهيوني الغاصب.
ثم جاءت مرحلة الاقتتال الفلسطيني، كنتيجة لانعدام وسائل الكفاح ضد من يحتل أرضهم ويسفك دماءهم ويدنس مقدساتهم، ويسبب لهم الويلات أثر الويلات، لم يعد ينفع الانكفاء إلى بندقية ولا غصن زيتون ولا حجر ولا متفجرة، فاختاروا الانتحار، لكنهم اختاروه على طريقة لم تعجب أعداءهم ولا المتفرجين من أبناء جلدتهم، فأن يموت الفلسطينيون بنيران بعضهم شيء لا يضير، ولكن أن يموتوا بفعل حصار تشارك به أطراف عربية، لا شك ينغص هدأة الأنظمة ويسارع في زلزلتها، ومن هنا حملت إسرائيل عبء إزالة الكابوس، شنت حرباً على غزة واقترفت مجازر بحق المدنيين الأبرياء، ودمرت بيوتهم على رؤوسهم وأحرقت أجسادهم بالنار والفسفور، لكنهم صمدوا وحققوا أسطورة مثل تلك التي حققها اللبنانيون في حرب تموز ٢٠٠٦.
أيقن أخيراً المشاركون في العدوان والداعمون له والذين انتظروا نتائجه بفارغ من الصبر، أن لا حل للقضية من الجانب الصهيوني بالمدفع والدبابة مثلما لا حل من الجانب الفلسطيني بالبندقية ولا غصن الزيتون، فكان الطرح الاقتصادي الذي سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتبنيه كسبيل وحيد لإنهاء القضية الفلسطينية وما لبثت الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا واليابان ودول الثراء العربية برعاية هذا الطرح، فأغدقوا خمسة مليارات دولار دفعة واحدة على غزة والضفة الغربية، فتحققت على إثرها بوادر مصالحة فلسطينية وحكومة وحدة وطنية ومقدمات للاعتراف بإسرائيل وحل سلمي يقبل به جميع الأطراف، فتلك هي المعادلة سلام في مقابل المال.
صحيح أن “الأرض بتتكلم عربي”، لكن المال بيتكلم عبري!
Leave a Reply