بيروت – نبيل هيثم
يخطئ كثيرون فـي تحليلهم للأسس النظرية التي يعتمدها تنظيم «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام».
وليست آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بالنسبة إلى «داعش» سوى شعارات يوظفها، بتفسيرات شاذة، لتبرير عملياته الارهابية… ولعل جلسة سريعة مع شيخ أزهري تكفـي للتأكد من ذلك، فتلك الآيات والاحاديث المستخدمة اسوأ استخدام من قبل هذا التنظيم المتشدد لا يمكن فهمها سوى من خلال إدراك مقاصدها، ووضعها فـي سياقها التاريخي.
وليست تعاليم ابن تيمية أيضاً، سوى غطاء يستخدمه إرهابيو «داعش»، لإضفاء شرعية دينية على تشددهم، والزعم انهم يمثلون صحيح الدين، وهو ما تظهره تفسيرات عدّة ظهرت مؤخراً بشأن موقف «شيخ الاسلام» من شروط اعلان الخلافة.
كذلك، ليست تعاليم محمد بن عبد الوهاب هي الموجّه اليوم لعمل «داعش»، وإن كان يشكل منطلقاً ايديولوجياً، فقد بات مؤكداً، انطلاقاً من الأدبيات المنتشرة عبر المواقع والمنتديات الجهادية، أن أيديولوجيا «داعش» هي تطوير لبنية أفكار ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب وجهيمان العتيبي وعبد الله عزام والوهابيين الجدد باتجاه يفوق فـي خطورته كل ما ورد فـي افكار المشايخ المذكورين. وفـي هذا الإطار، فإن المرجع الأهم لفهم الأسس النظرية «الداعشية» يتمثل فـي كتاب خطير ظهر قبل حوالي عشر سنوات، بعنوان «إدارة التوحّش»، وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرها «ابو بكر ناجي» عبر منتديات جهادية، ابرزها «شبكة انا المسلم».
ومن المؤكد ان اسم «ابو بكر ناجي»، ما هو إلا اسم مستعار لاحد منظري التيار السلفـي الجهادي، وتشتبه اجهزة الاستخبارات انه يعود للمصري محمد حسن خليل الحكايمة، وهو احد القادة المؤسسين فـي تنظيم «الجماعة الإسلامية» التي اشتهرت بعملياتها الإرهابية فـي مصر خلال تسعينيات القرن الماضي.
هذا الكتاب، الذي قام مركز مكافحة الإرهاب فـي كلية «ويست بوينت» العسكرية الشهيرة بترجمته إلى الإنكليزية بعنوان «إدارة الوحشية»، يشكل تماماً «المانيفستو» المعتمد من قبل «داعش» فـي المرحلة الراهنة، ومن خلاله يمكن إدراك مستوى الخطر الذي يتهدد الوطن العربي بشكل خاص، كما والعالم بأسره، والتأكد من ان الحرب الكونية على الإرهاب التكفـيري لن تقف عند حدود زمنية.
ينطلق «ابو بكر ناجي» فـي تعريف «إدارة التوحّش» من فكرة «السيطرة»، وهي تتمثل، كما يقول، فـي كونها المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة الإسلامية، وتُعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا فـي إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة – بإذن الله – هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة، وإذا أخفقنا أعاذنا الله من ذلك لا يعني انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي إلى مزيد من التوحش.
إذاً، فإن « إدارة التوحّش»، حسب ما يمكن فهمها من هذا الكتاب، تمثل تلك الحالة من الفوضى التي ستدب فـي دولة ما أو منطقة ما، إذا ما زالت عنها قبضة السلطات الحاكمة، كما يعرّفها الكاتب، أي أن كل دولة تنهار ولا تقوم دولة اخرى بالسيطرة عليها وادارة شؤونها، فان المناطق التابعة للدولة المنهارة تقع تحت اصطلاح «ادارة التوحش»، وهي مرحلة ليست طارئة فـي التاريخ القديم والجديد، ولا سيما التاريخ الإسلامي، وفقاً لأبي بكر ناجي، ضارباً فـي هذا الإطار امثلة عدّة، من النظام القبلي الذي حكم المدينة المنورة قبل وصول الرسول محمد، والخلافات الصغيرة التي تشكلت بعد هجمات المغول والصليبيين، وصولاً إلى التجربة الأفغانية.
ولعلّ النظر إلى ما آلت إليه الاوضاع فـي سوريا والعراق وليبيا من انهيار لسلطة الدولة المركزية، يفسّر بشكل أو بآخر، كيف ظهر تنظيم مثل «داعش» على المشهد الإقليمي، فانهيار الدولة الليبية، وخروج مناطق عدّة عن سيطرة الدولتين المركزيتين فـي كل من سوريا والعراق، سهّل على الإسلام الجهادي أن يحل فـيها مكان السلطات الحاكمة، وان يدير هذا «التوحش»، كمرحلة تمهيدية نحو اقامة «الدولة الإسلامية».
وانطلاقاً من هذا المفهوم، يمكن ايضاً فهم بعض التحولات التي شهدتها مصر، على سبيل المثال، خلال العام الماضي، حين انتفضت الدولة العميقة، ممثلة بالمؤسسة العسكرية، على السياسات التي انتهجها التيار القطبي (نسبة إلى سيد قطب) القابض على زمام جماعة «الإخوان المسلمين» بهدف تقويض الدولة المصرية، وتحويلها إلى منطقة لـ«إدارة التوحش». كما يمكن من خلالها إدراك اهمية ما تقوم به القيادة المصرية الحالية فـي مجال محاربة الإرهاب فـي موازاة اعادة تثبيت ركائز الدولة المركزية.
ويحدد «ابو بكر ناجي»، فـي كتابه هذا، العوامل الرئيسة التي تساهم فـي تحويل هذه المنطقة أو تلك إلى ارض لـ«إدارة التوحش»، ومن بينها «وجود عمق جغرافـي وتضاريس»، كما هي الحال فـي العراق وسوريا، وضعف النظام الحاكم، وضعف القوات الحكومية المتمركزة على أطراف الدولة (وهو ما يفسر اصرار «داعش» على احكام السيطرة على النقاط الحدودية)، فضلاً عن وجود مد إسلامي جهادي مبشر (بيئة حاضنة)، وانتشار السلاح فـي ايدي الناس.
ولعلّ الأمر الأهم فـي كتاب «إدارة التوحّش» هو عدم اقتصاره على الجانب النظري، فهو يقدّم إطاراً عملياً، وإن فضّل كاتبه الاكتفاء بالخطوط العريضة تاركاً للجهاديين فـي هذه المنطقة او تلك فرصة التوسع فـي ابتكار ما يلزم من خطوات عملية انطلاقاً من هذه الأفكار العامة.
وفـي هذا الإطار العملي، أو المهمّات الملقاة على عاتق «الجهاديين» فـي مناطق «إدارة التوحش»، لا يحتاج المرء إلى جهد كبير للربط بين ما اقترحه «ابو بكر ناجي» وبين ما يمارسه «داعش» فـي المناطق التي باتت تحت قبضته، سواء لجهة السيطرة على مناطق الفوضى (من حلب والرقة، مروراً بدير الزور، وصولاً إلى الموصل والانبار)، وتوفـير الطعام والعلاج والنفقات لسكان هذه المناطق (الهيئات الشرعية وتفريعاتها)، وإقامة تحصينات دفاعية وتطوير القدرات القتالية للجهاديين، والحرص على انشاء جهاز استخباراتي، وشراء الولاءات بالمال (العشائر والزعامات المحلية)، و«النكاية بالأعداء»، عبر الاغارة عليهم لإرهابهم وغنم أموالهم وسبي نسائهم لسد حاجة المقاتلين، وهو ما حدث تماماً فـي الموصل، على سبيل المثال، حين نهبت المصارف وهجّر المسيحيون والايزيديون والكاكائيون… وغيرهم.
ولم يفت ابو بكر ناجي ان يضمن مانيفستو «التوحش» جانباً اقتصادياً، يفسر الكثير من الظواهر التي شهدتها مرحلة نمو «داعش»، ولعلّ ابرزها التمكّن من مصادر العدو الرئيسية، وتحديداً آبار النفط!
وفـي جانب مواز، تبدو واضحة للغاية العلاقة بين الممارسات الوحشية لتنظيم «داعش» وما تضمنه كتاب «إدارة التوحش» من اساليب لترويع السكان واستدراج الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الاميركية إلى حروب خارج الأراضي الاميركية، ومنها الذهاب بعيداً فـي اعمال العنف، وتنفـيذ التفجيرات، وقتل المخالفـين… وهو ما يفسّر بطيبعة الحال شعار «بالذبح جئناكم» الذي يرفعه الإرهابيون، واصرارهم على توجيه رسائل استفزازية من خلال قطع الرؤوس، وبذل جهود كبيرة، على المستويين الدعائي والتقني، لتقديمها مصوّرة الى العالم اجمع، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وكان واضحاً، خلال الأشهر الماضية، ان كتاب ابي بكر ناجي قد بات بمثابة دليل ارشادي للعمل «الداعشي»، بدءاً من تحويل اراضي العراق وسوريا إلى مناطق «إدارة توحّش»، وصولاً الى استدراج الغرب إلى عمل عسكري، وهو ما ينذر بأن التنظيم المتشدد ينطلق بخطى واثقة لبلوغ المحطات الأربع التي تضمّنها المانيفستو «الداعشي»، وهي: «النكاية»، ثم «التوحش»، وبعدها «إدارة التوحّش»، وصولاً إلى «التمكين»، اي المرحلة المتقدمة لقيام «دولة الخلافة»!
«ادارة التوحش» .. و«الفوضى الخلاقة» !
فـي مطلع العام 2005، أدلت وزيرة الخارجية الاميركية كونداليسا رايس بحديث إلى صحيفة «واشنطن بوست»، كشفت فـيه عن نية ادارة جورج دبليو بوش «نشر الديموقراطية» فـي العالم العربي، فـي سياق ما يعرف بـ«الشرق الاوسط الجديد»، وذلك من خلال نشر «الفوضى الخلاقة». لعلّ الملفت للانتباه هنا أن ثمة فكرة واحدة تلتقي عندها نظرية المحافظين الجدد، التي وجّهت سياسات عهد بوش، ونظرية «إدارة التوحش» التي يسير عليها تنظيم «داعش». خلال الزيارة الاخيرة لرئيس الديبلوماسية الاميركية جون كيري إلى بغداد، قال إن الولايات المتحدة الاميركية تسعى الى «اعادة هيكلة» الجيش العراقي، كخطوة اساسية فـي المعركة ضد «داعش». ولا يخفى على احد ان ما آل اليه وضع الجيش العراقي لم يكن سوى ثمرة من ثمار «الفوضى الخلاقة»، التي بدأها بول بريمر من رأس الهرم العراقي، حين تم تسريح عناصر الجيش العراقي، لتحل مكانه الميليشيات الطائفـية، ناهيك عن تأجيج التوترات الطائفـية والعرقية.
ولا يمكن فصل ما جرى فـي سوريا عن نظرية «الفوضى الخلاقة»، التي سعت ادارة بوش فـي بداية الأمر الى تطبيقها من البوابة اللبنانية، الخاصرة الرخوة للدولة السورية، فأخفقت نتيجة للصمود البطولي التي ابداه رجال المقاومة اللبنانية فـي تصدّيهم لحرب تموز 2006. لعلّ هذا التقاطع بين «الفوضى الخلاقة» و«إدارة التوحش» يطرح تساؤلاً مشروعاً، هل ما جرى فـي الوطن العربي كان الهدف منه التمهيد لمرحلة «إدارة التوحش»، أم ان ما نشهده حالياً، فـيما طبول الحرب الكونية تدق بين جدة وباريس وواشنطن، هو صراع بين فوضى اميركية وفوضى تكفـيرية؟
«جاهلية القرن العشرين» !
ما يثير الانتباه فـي كتاب «إدارة التوحش» استشهاد ابي بكر ناجي ، القيادي البارز فـي «الاخوان المسلمين» سيد قطب, الذي اعدم فـي عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وبات التيار المعروف باسمه القابض على زمام هذه الجماعة فـي مصر، منذ المؤتمر الأخير فـي العام 2010، والذي انتج قيادة «قطبية» وصلت الى حكم البلاد فـي عهد الرئيس المعزول محمد مرسي.
ولعل قراءة اعمال سيد قطب، وخصوصاً كتب «معالم فـي الطريق» و«فـي ظلال القرآن» و«مقومات التصور الإسلامي»، تظهر جلياً ان «داعش»، وغيره من التنظيمات المماثلة، يستند ايديولوجيا وعملياً إلى فكرتين قطبيتين كانتا وراء التكفـير واستحلال الدماء، أولاهما تتمثل فـي إطلاق صفة الجاهلية ونزع صفة الإسلام عن المجتمعات الإسلامية المعاصرة، او ما يعرف بـ«جاهلية القرن العشرين»، والثانية تتمثل فـي الحاكمية التي تتطلب تطبيق الشريعة الإسلامية. وتنطلق فكرة «جاهلية القرن العشرين» من اعتبار سيد قطب أن ثمة جاهلية أصابت المجتمعات الإسلامية فنزعت عنها صفة الإسلام، ما يعني عملياً تكفـير المجتمعات، حتى وان كانت مسلمة، وقتالها، وهو ما يبدو واضحاً فـي كتاب «ادارة التوحش»، وفـي الممارسات «الداعشية».
علاوة على ذلك، فإنّ سيد قطب اول من نظر لفكرة الفسطاطين والدارين، انطلاقاً من فكرة «جاهلية القرن العشرين» تلك، فالمجتمع الإسلامي عنده ليس ذلك الذي يضم أناسا يسمون أنفسهم مسلمين، بل ان المجتمع قد يكون جاهليا وإن صلى وصام وحج البيت الحرام، وحتى لو أقر بوجود الله. هكذا يدار التوحش !
Leave a Reply