كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم تكن مهلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، للقوى السياسية اللبنانية، كافية لتمكين الرئيس المكلّف السفير مصطفى أديب من تشكيل الحكومة، إذ انتهت مهلة الأسبوعين، ولم يقدّم أديب تشكيلته، بل أنه لم يجرِ مشاورات مع الكتل النيابية التي تجاهلها تماماً، اعتقاداً منه، بأن المبادرة الفرنسية التي فرضته رئيساً للحكومة، ستمارس الضغط نفسه لولادة حكومته، قبل أن تتبين له تعقيدات التركيبة السياسية للنظام اللبناني، والتي لا يمكن تخطيها دون المساس بدستور الطائف.
فالنظام القائم في لبنان بموجب اتفاق الطائف، كفيل بتأخير تشكيل الحكومات، لأشهر وليس لأسابيع فقط، باستثناء مرحلة الوجود السوري، حيث كانت الحكومات تبصر النور في غضون أيام لأن المحاصصة كانت محصورة بين أطراف داخلية محددة، بينما كانت الأطراف الخارجية المتنازعة اليوم على الساحة اللبنانية، مسلّمةً بالوصاية السورية على لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية.
وإذ لم يشعر اللبنانيون بأزمات تشكيل الحكومة خلال فترة الوجود السوري، أصبح هذا الاستحقاق هو الأكثر تعقيداً في لبنان بعد انسحاب سوريا عام 2005، لاسيما وأن الدستور اللبناني يحصر صلاحية وضع السياسات العامة للدولة بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، مما يعني أن الكلمة الفصل في إدارة شؤون البلاد والعباد تحسم على طاولة الحكومة، وبالتالي فمن حق الأطراف السياسية الوازنة انتخابياً أن تكون متمثلة في مجلس الوزراء.
تلكؤ أديب
منذ تكليفه، لم يقم الرئيس أديب، بأي اتصالات مع الكتل النيابية التي سمّته بإيعاز فرنسي الشهر الماضي، رغم حاجته لأصواتها من أجل نيل ثقة البرلمان، لكنه انكفأ عنها، تحت ذريعة أنه يعمل لتشكيل حكومة مستقلين بعيدة عن تأثير الأحزاب والقوى السياسية، وهو الطرح الذي شجّعه عليه نادي رؤساء الحكومات السابقين، الذين سمّوه لرئاسة الحكومة وحثوه على تجاهل الكتل النيابية التي أيدته دعماً للمبادرة الفرنسية.
وإذا كان رؤساء الحكومات السابقون قد أرادوا تجاهل نتائج الانتخابات والتوازنات القائمة في البرلمان، فإن أديب وقع في فخاخ «بيت الوسط»، حيث ضغط سعد الحريري، من أجل إبعاد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن عملية التأليف، وحصرها بنفسه، عملاً بالدستور الذي يمنح الرئيس المكلف صلاحية اختيار الوزراء قبل عرض الأسماء على رئيس الجمهورية للتشاور بشأنها، فإما أن يوقّع الرئيس مرسوم الحكومة، أو يرفضها ويبدي ملاحظاته على الشكل والأسماء. بعدها، إما يأخذ الرئيس المكلّف بملاحظات رئيس الجمهورية أو يرفضها فيعتذر وهو ما قد يتجه إليه أديب في حال إصراره على تجاهل نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.
ويأتي تلكؤ أديب بتقديم تشكيلته الوزارية، بتحريض من قوى الأقلية البرلمانية، لاسيما من الرئيسين السابقين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة، للإصرار على حكومة «مستقلين غير حزبيين»، بهدف إبعاد قوى الأغلبية، وعلى رأسها «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، بحجة تسهيل مهمة إنقاذ لبنان من الانهيار عبر إرضاء دول الخليج وأميركا والدول الأوروبية.
وبينما يقف الرئيس المكلّف عند هذه النقطة، وينتظر تدخلاً فرنسياً يزيل من أمامه العقبات، يبدو أن باريس –التي باتت بعد انفجار مرفأ بيروت مرجعاً للبنانيين– لم تحسم قرارها تجاه مسألة مشاركة «حزب الله» في الحكومة. إذ تريد فرنسا حكومة إنقاذية يتم تشكيلها بسرعة للبدء بالإصلاحات اللازمة، لكن يبدو أنه لم يخطر ببال المسؤولين الفرنسيين مدى تعقيدات التركيبة الداخلية، والتي من المفترض أن يعرفها رئيس المخابرات الفرنسية برنارد إيمييه جيداً، وهو المكلّف بالملف اللبناني وقد كان سفيراً لبلاده في بيروت.
المبادرة الفرنسية إلى أين؟
في ظل تعثّر وتأخّر تشكيل الحكومة فإن المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون، وضعت في مهب الريح، وهو ما دفع سيد الإليزيه إلى التدخّل شخصياً في اتصالين مع الرئيس نبيه برّي، لتليين موقفه بشأن وزارة المال التي أصرّ بري على أن تكون من حصة الطائفة الشيعية بحسب محاضر اتفاق الطائف، خاصة بعد العقوبات الأميركية على وزير المال السابق علي حسن خليل.
وبحسب المصادر، تمنى ماكرون على رئيس مجلس النواب، تسهيل ولادة الحكومة، للبدء بالإصلاحات من أجل التعجيل في وصول المساعدات والاستثمارات الدولية الموعودة للبنان، وقد فعل ماكرون الأمر نفسه مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي أيّد أيضاً، المبادرة الفرنسية وشجّع على تشكيل حكومة إصلاحية على أن تكون «مستقلة فعلا»ً، لا بوزراء حزبيين مقنّعين، وأن تحصل مداورة في الحقائب الوزارية، مع إسقاط الطائفية عن الوزارات وعدم حصر وزارة المالية بالطائفة الشيعية كما يطالب بري.
لكن الفرنسيين قرروا الاستجابة لضغوط بري بالموافقة على منح وزارة المال للشيعة، غير أن التفاوت في المواقف لم ينحصر بين بري وباسيل، إذ يصر رؤساء الحكومات السابقون على تشكيل حكومة غير حزبية أو سياسية، بينما يطالب «حزب الله» بحكومة سياسية مدعّمة بـ«تكنوقراط»، في حين ينأى «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» عن التدخل المباشر بعملية التأليف، لعدم عرقلة مساعي الرئيس المكلّف الذي زار القصر الجمهوري مرتين، منذ تكليفه، دون أن يحمل معه أسماء الوزراء، وقد خرج من لقائه بالرئيس عون مكتفياً بالتصريح للصحافيين بعبارة «إن شاء الله بالتوفيق».
لكن دعاء أديب هذا لم يحرك الجمود الذي يُخشى أن يطول إذا لم يحرّك الرئيس ماكرون مبادرته عبر الضغط على الأطراف السياسية بأسلوب العصا والجزرة، وهو كان قد لوّح بحرمان لبنان من المساعدات ومعاقبة المسؤولين الذين يعرقلون تشكيل الحكومة وعملية الإصلاح.
ويخشى المراقبون أنه حتى لو نجح أديب في تقديم تشكيلته الوزارية قريباً، فإن الخلافات بشأن الثلث المعطل والبيان الوزاري والمراسيم الاشتراعية قد تؤدي إلى إسقاط المبادرة الفرنسية بالضربة القاضية.
ووسط التعقيدات السياسية التي قد تحول دون السير قدماً بعملية الإنقاذ الاقتصادي، تزداد مخاوف اللبنانيين من الدخول في نفق مظلم في ظل التوترات الأمنية المتنقلة من منطقة إلى أخرى، بالتزامن مع موجة تسلّح ملحوظة.
فقد شهد لبنان خلال الأسبوعين الأخيرين اشتباكات في خلدة اتّخذت طابعاً مذهبياً (سنّي–شيعي) وأخرى في الطريق الجديدة بين مناصري بهاء الحريري وآخرين من «تيار المستقبل» موالين لشقيقه سعد الحريري، ففضلاً عن توتر أمني بين عناصر من «التيار الوطني الحر» وآخرين من «القوات اللبنانية» في سن الفيل، بينما فقد الجيش اللبناني أربعة من عناصره في مداهمة لمجموعة إرهابية يتزعّمها خالد التلاوي المرتبط بتنظيم «داعش»، والذي تبين أنه المسؤول عن جريمة كفتون في الكورة حيث لقي ثلاثة حراس للبلدية مصرعهم برصاص مجهولين.
وتجري كل هذه الأحداث الأمنية، على وقع المبادرة الفرنسية التي رغم تعثرها بعدم تشكيل الحكومة في غضون 15 يوماً، إلا أنها لم تفشل بعد، وقد منحها الرئيس ماكرون مزيداً من الوقت للنجاح، ما يعني أنه سيعمل مع الأطراف الداخلية لتسهيل ولادة الحكومة ومنحها الغطاء السياسي، دون القفز فوق نتائج الانتخابات النيابية، كما يطالب رؤساء الحكومات السابقون، وخلفهم واشنطن والدول الخليجية الرافضة لإشراك «حزب الله» في الحكم.
أوضاع لبنان الصعبة
مع تأخّر تشكيل الحكومة على توقيت ماكرون، فإن باريس قد تضطر إلى تعليق مبادرتها في حال عدم التوصّل إلى صيغة مرضية للحكم، وهو ما يهدد نفوذها المستجد في لبنان الذي تتصارع عليه قائمة متنامية من العواصم الإقليمية والدولية.
فإلى جانب فرنسا، تحاول تركيا الدخول بقوة إلى الساحة اللبنانية في إطار التنافس مع الأوروبيين على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، هذا عدا عن المصالح الأميركية والروسية والإيرانية والخليجية والإسرائيلية وسعي الصين إلى دور اقتصادي في المنطقة.
لكن لبنان–الساحة يمرّ بوضع معقد للغاية، إذ تتفاقم أزماته المالية والاقتصادية والاجتماعية حتى أصبح على عتبة الفقر المدقع بحسب دراسة لمنظمة «الإسكوا».
أما إذا فشلت المبادرة الفرنسية فستكون الأشهر والسنوات القادمة صعبة جداً على اللبنانيين خاصة مع إمكانية تفلّت الوضع الأمني وتطوره نحو تصعيد عسكري، فهل يتلقف السياسيون الفرصة للحفاظ على النظام القائم عبر تطبيق إصلاحات قاسية وفق شروط صندوق النقد الدولي، أم أن البلاد ذاهبة في طريق اللاعودة.
هي مرحلة انتظار صعبة، ولكن الأصعب لم يأت بعد!
Leave a Reply