مع دخول جريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عامها العاشر، إنعقدت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي أنشئت في حزيران من العام 2007 بقرار من مجلس الأمن الدولي ووفق الفصل السابع للأمم المتحدة، وقد شكّل تكوينها خلافاً بين اللبنانيين وانقسموا حولها، حيث اعتبر فريق «14 آذار» أنها ستحقق العدالة وتأتي بالمجرمين وتحاكمهم وتعاقبهم، فإن فريق «8 آذار» وفي مقدّمه «حزب الله» الذي هو المستهدف الأول منها كفصيل مقاوم، رأى فيها محكمة مسيّسة وليست مهمتها كشف الحقيقة في إغتيال الحريري ورفاقه، إنما النيل من المقاومة، وبهذا المعنى هي «إسرائيلية الصنع»، وقد بيّن الحزب مع آخرين بطلان إنشاء المحكمة لأنها لم تُقَر في مجلس النواب ولم يوافق عليها رئيس الجمهورية العماد إميل لحود الذي أناط به الدستور صلاحية عقد المعاهدات والإتفاقات، وأن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وكانت مبتورة وغير ميثاقية ودستورية بخروج وزراء «أمل» و«حزب الله» منها كممثلين للطائفة الشيعية، أرسلت رسالة الى الأمم المتحدة لإبرام إتفاق إنشاء المحكمة.
ولقد بدأ الشك في ما سمّي القضاء الدولي من فريق «8 آذار» لعدم ثقة «14 آذار» بالقضاء اللبناني، منذ أن عُهِد الى لجنة تحقيق دولية القيام بالإجراءات والإستقصاءات لكشف المجرمين، فتمّ تكليف المحقّق فيتزجيرالد الذي أكمل ما بدأه المحققون الأمنيون والقضائيون اللبنانيون الذين أعلنوا عن تفجير حصل في سيارة «ميتسوبتشي» وبواسطة إنتحاري.
إلاّ أن قوى «14 آذار» ومنذ اللحظة الأولى لوقوع الإغتيال وجّهت أصابع الإتهام الى النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك، ورفعت صور قادته من اللبنانيين والسوريين، وكان الهدف هو الوصول الى النظام السوري وعلى رأسه الرئيس بشار الأسد، وهو مابدأه التحقيق الدولي مع الألماني ديتليف ميليس وحاول جمع أدلة لإتهام النظام وحلفاء له في لبنان، فكانت عملية تركيب شهود الزور من خلال ما سمي «الشاهد الملك» محمد زهير الصديق الذي انتحل صفة ضابط في الحرس الجمهوري السوري برتبة نقيب، وأنه حضر الإجتماعات التي خططت للإغتيال في القصر الجمهوري السوري وفي شقة بالضاحية الجنوبية كان يأتي إليها الضباط اللبنانيون الأربعة ويجتمعون فيها مع ضباط سوريين ومنها إنطلقت العملية لتنفيذ الإغتيال بعد أن تمّ تفخيخ السيارة في الزبداني بسوريا، وانتقلت من هناك الى مركز للمخابرات السورية في حمانا ثم الى الضاحية الجنوبية وبعدها حصلت عملية التفجير، وقد استند التحقيق الدولي الى شهادة الصدّيق ليوقع بالضباط جميل السيّد وعلي الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان، ويتم توقيفهم دون إستجوابهم ولمدة أربع سنوات، تبيّن أن اعتقالهم كان سياسياً، وكاد الأمر أن يحصل مع ضباط سوريين آخرين تمّ التحقيق معهم في فيينا وهم اللواء رستم غزالي والعميد جامع جامع (قتل في الأحداث السورية في دير الزور أثناء المعارك قبل أشهر) والعميد عبد الكريم عباس، فتمّ إستجوابهم ولم يوقفوا، كما تمّ الإستماع الى الرئيس الأسد في سوريا وقبله الى الرئيس إميل لحود في قصر بعبدا، وعدد لا بأس به من الضباط والمسؤولين اللبنانيين والسوريين، ليتبيّن بعد أن استلمت المحكمة الدولية الملف من لجنة التحقيق، أن لا إتهامات تدين الضباط الأربعة ولا النظام السوري، فأطلق سراحهم بعد أربع سنوات على اعتقالهم في العام 2009، وكانت الأجواء السياسية تبدّلت داخلياً، فتمّ إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكّلت حكومة وحدة وطنية برئاسة السنيورة، وجرت مصالحة سورية-سعودية، مما يؤكّد على أن إعتقال هؤلاء الضباط كان سياسياً، لتنكشف قبل ذلك فضيحة الشهود الزور الذين بدأوا مع الصديق وتوالوا مع هسام هسام وعبد الباسط بني عودة وميشال جرجورة، ولقد كشفت تقارير أمنية وصحافية وما عُرِف بـ«الحقيقة ليكس»، تورط قيادات سياسية وأمنية وشخصيات إعلامية لاسيما الصحافي فارس خشان، في تركيب شهود الزور، إذ جنّد هسام هسام الذي كشف عن ذلك في مؤتمر صحافي، كما أن الرئيس سعد الحريري اعترف في مقابلة مع جريدة «الشرق الأوسط» أنه وعائلته كانوا ضحايا شهود الزور.
ومع بدء المحكمة الدولية تحقيقاتها، وتحويل الإتهام عن النظام السوري وعن قادة أمنيين وسياسيين لبنانيين كانت لجنة التحقيق الدولية استدعتهم، تحوّلت الأنظار الى «حزب الله»، وبدأت تتسرّب معلومات عن أنه تمّ رصد إتصالات هاتفية كشفت عن وجود عدد من الهواتف كانت تتصل فيما بينها قبل أشهر من الجريمة وأثناء حصولها ثم انقطعت، وتمّ تحليل هذه الإتصالات ليتبيّن أنها تعود لأشخاص هم مصطفى بدرالدين وسليم العياش وأسد صبرا وحسين عنيسي، وأن هؤلاء هم مَن كانوا وراء إغتيال الحريري، وأنهم ينتمون الى «حزب الله»، وأن بدرالدين هو صهر عماد مغنية الذي اغتيل في شباط 2008 في دمشق، وهو القائد العسكري للمقاومة والمطلوب من أميركا والعدو الإسرائيلي.
جاء الكشف عن أن التحقيق الدولي الذي تابعته المحكمة، أوصل الى قياديين في «حزب الله» خططوا ونفّذوا إغتيال الحريري، ليتحوّل الى إتهام فيما بعد صدر في حزيران عام 2011، ولم تتمكّن السلطات اللبنانية من اعتقالهم بناء على طلب المحكمة ليمثلوا أمامها، فاتّخذ القرار بمحاكمتهم غيابياً وتعيين وكلاء دفاع عنهم.
بدأت المحكمة في موعدها المحدد في 16 كانون الثاني الحالي، وتلا الإدعاء مضبطة الإتّهام التي ارتكزت الى شبكة إتصالات تمّ توزيعها على ألوان زرقاء وخضراء وأرجوانية وركّزت بالأسماء على كل من بدرالدين وعياش وصبرا وعنيسي لينضم إليهم متّهم خامس هو حسن مرعي الذي لم تقرّر المحكمة بعد، البت بملفه حيث طالب الدفاع عدم بدء المحاكمة قبل الإطلاع على ما ورد فيه.
جديد الإدعاء: سنة وشيعة
لم تأتِ المحكمة بجديد سوى ما أعلنه الإدّعاء عن عدم وجود جثة الإنتحاري أحمد أبوعدس ليعرض، أنه كان فيلماً مركباً من قبل المخططين للإغتيال بإيهام الرأي العام أن مَن قتل الحريري هو عنصر ينتمي الى تنظيم أصولي إسلامي «النصرة»، وأن السيارة المستخدمة من نوع «ميتسوبتشي» تمّ شراؤها من الشمال، وقد حاول الإدّعاء الإيحاء بأن مَن خطّط للجريمة كانّ سنيا من خلال أبوعدس ومكان شراء السيارة من المنية، لإبعاد التهمة عن مشاركة عناصر من «حزب الله» فيها، وهم ينتمون الى الطائفة الشيعية.
فبدء أعمال المحكمة وما قدّمه الإدّعاء، لم يفاجئ اللبنانيين، ولا المجتمع الدولي المتابع منذ سنوات للجريمة التي ألصقت تهم عدة بمَن يكون نفّذها، لتأخذ المحكمة بقرينة الإتصالات التي شكّك فيها الدفاع واعتبرها غير ذات صدقية، لأنها لم تحدّد مضمون الإتصالات وماذا جرى بين المتهاتفين، وكل ما ذكر أن شبكة إتصالات هاتفية فتحت في فترة محددة قبل إغتيال الحريري لتتوقف بعد وقوع الجريمة، حيث طالب الدفاع أن تعطى له كل المعطيات والمعلومات التي حصل عليها الإدّعاء من التحقيقات التي توصل إليها فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي وكان الرائد وسام عيد هو مَن قام بالمهمة وقد كشف عن الإتصالات ليقدّمها مع أسماء أصحاب الهواتف الى المحكمة الدولية، ويبني عليها الإدّعاء مضبطة الإتهام بحق بدرالدين ورفاقه. وما ظهر من مفاجأة أيضاً أن الإدّعاء اعترف بخطأ مطبعي بإظهار أحد الأرقام الهاتفية التي استخدمت في الإتصالات، ليتبيّن أنه يعود الى شخص لبناني من صيدا يدعى خليل حرب قرّر تقديم شكوى ضد المحكمة الدولية التي أربكها وجود هذا الرقم مع شخص غير متّهم، مما أعطى الدفاع حجة قوية ليسقط ما بنى عليه الإدّعاء، ويكشف زيف التحقيق وفق ما أكّد محامو الدفاع الذين سيطالبون بإرجاء المحاكمة، للإطّلاع على التفاصيل أكثر، وانتظار جواب المحكمة حول وجود متّهم خامس هو حسن مرعي لم يكن بين المتّهمين ولماذا ظهر إسمه قبل أيام من بدء المحكمة ولماذا هذا التوقيت؟
ولم تحدث ما أوردته المحكمة من خلال الإدّعاء ولا من محامي المتضررين، أي ردّ فعل قوي، كما لم تحرك الشارع اللبناني المنقسم على نفسه، لأن المحكمة ووفق فريق «8 آذار»، أجهضت نفسها، لكثرة ما سُرّب من معلومات خاطئة كان آخرها ما ذكره أحد كبار المحققين في لجنة التحقيق التي ترأسها ميليس وهو القاضي السويدي أوستروم، بأن التفجير حصل تحت الأرض، وهو ما يناقض ما أعلنه ميليس أنه حصل في تفجير سيارة «الميتسوبتشي».
والمحكمة التي كلّفت لبنان حتى الآن نحو أكثر من 250 مليون دولار، والتي ينتهي العقد معها في 2015، قد لا تصل خلال عام الى كشف الحقيقة في إغتيال الحريري، في ظل الشكوك التي تحدّث عنها الدفاع حول الإتصالات إذا لم يتم إظهارها بالصوت أو بالصوت والصورة، وكذلك ما سيدلي به الشهود الذين يقدرون بالمئات، والتي تستند الى جوانب سياسية، واعتبرت تهديدات ضد الحريري، لاسيما الحملات السياسية التي أطلقت ضده وتحديداً ما وجّهه إليه الرئيس السوري من أنه «سيدمّر لبنان على رأس الحريري وحليفه وليد جنبلاط إذا لم يوافقا على التمديد للرئيس لحود»، وأن حلفاء لسوريا شنّوا حملات تهويلية عليه.
الإرهاب
والمحكمة التي «أفرحت» الرئيس سعد الحريري بالوصول الى الحقيقة، خرج من قاعتها ليعلن في اليوم الاول من بدء أعمالها، أنها ليست للثأر والإنتقام بل للعدالة، عاد في اليوم الثاني ليعلن موافقته على مشاركة «حزب الله» في حكومة واحدة، وهو ما غيّر من مسار الوضع السياسي اللبناني، إذ كان التخوّف أن تكون المحكمة بداية لتفجير داخلي سواء على الصعيدين السياسي والأمني، فجاءت بداياتها لتفتح الطريق أمام حل سياسي داخلي، إذ مرّت الأيام الأولى من عملها هادئة بلبنان، وإن كان تزامن مع افتتاح جلساتها تفجير سيارة مفخخة في الهرمل وبعد أقل من أسبوع في حارة حريك على بعد امتار من انفجار وقع قبل عشرين يوماً، وإطلاق صواريخ على عرسال وبلدات رأس بعلبك والفاكهة والقاع، لكن ليس لذلك علاقة بالمحكمة التي إنطلقت أعمالها مع صمت مطبق من «حزب الله» الذي غيّبها عن مواقفه كما عن إعلامه، كأنها غير موجودة، في وقت تعاطى معها «تيار المستقبل» وكأنها تحصيل حاصل، ولم يبنِ عليها للإنتقام، بل مدّ الحريري يد المشاركة في الحكومة مع «حزب الله»، وقد ترك موقفه هذا ارتياحاً سياسياً وشعبياً وإشادة به وفتح الطريق المقفل منذ تسعة أشهر أمام تشكيل الحكومة، وتحلى برجل الدولة المسؤول كما وصفه النائب وليد جنبلاط ووضع مصلحة لبنان الوطنية فوق مصلحته الفئوية وجروحه الشخصية، وأعطى زخماً لتشكيل حكومة سياسية جامعة تمهّد الطريق لإنتخابات رئاسة الجمهورية.
وقد فاجأ موقف الحريري حلفاءه قبل خصومه واعتبروه تنازلاً عن دم والده والشهداء من «14 آذار»، وتراجع عن ثوابت كان أعلنها هو وحلفاؤه حيث رفض رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ما أعلنه الحريري ورفع من سقف شروطه السياسية للإشتراك في حكومة باتت ولادتها طبيعية بعدما كانت قيصرية، وهذه الولادة ستبارك بها الدول الكبرى كما دول إقليمية تحت عنوان صيانة الإستقرار في لبنان، الذي عليه اجتمع القادة اللبنانيون في «8» و«14 آذار»، وقدموا التنازلات، لأن البديل عنه، هو الإنفجار الواسع والكبير.
Leave a Reply