اذا أردت.. لا أن تسمع عن مهرجان السياقة المنفلتة، بل.. أن ترى بأم عينيك ذلك المهرجان، فاذهب إلى شارع وورن على امتداده، وسوف ترى العجب العجاب، وبالتحديد أثناء فترة انصراف الطلاب من مدارسهم وخاصة طلاب «الهاي سكول»، حيث يبدأ مهرجان “التشفيط” والزعيق والصفير وإطلاق الزمامير التي تصاحبها جميعاً، السرعة الجنونية التي لا يتخيل رعب مروقها العقل البشري في خضم تلك المعمعة، ولا يمكن أن يتاح للمرء التفكير في أن ينجو منها إلا طويل العمر!
ولست أدري كيف سمحت سلطة البوليس باستمرار هذه التصرفات الخطرة على حياة الآخرين كما على حياة المراهقين.
إنهم مأخوذون بتمردهم ويرفضون أيّ نوع من التوجيه أو حتى النصح، وفوق ذلك يطالبون بمزيد من الحرية والاستقلال، حيث في هذه المرحلة العمرية تجتاح المراهق صراعات داخلية في نفسه، ومنها الصراع بين الاستقلالية عن الأسرة وفكّ الاعتماد عليها في تمشية أموره، عدا عن الصراع إزاء التأرجح بين مخلفات الطفولة ومتطلبات الرجولة، وكذلك الصراع بين طموحات المراهق الزائدة وبين تقصيره الواضح بأداء التزاماته، ولا يفوتن الصراع بين غرائزه الداخلية وبين التقاليد الاجتماعية، بالإضافة إلى الصراع الديني بين ما تعلمه من شعائر ومبادئ ومسلّمات وهو صغير وبين تفكيره الجديد وفلسفته الجديدة في الحياة، وصراعه الثقافي بين جيله الذي يحيا بين ظهرانيه وبين أفكار وثقافة الجيل السابق.
ومهما تعلم الأهل ووصل مستواهم الثقافي إلى أعلى المراتب فإن روح قيمهم التي تربوا عليها تبقى مغروسة في دواخلهم ويودون توريثها لأبنائهم، خاصة إذا كان الأبناء قد نشأوا في بلدهم الأم وتربوا على قيم وثقافة ذلك البلد.
وللأسف فإن معظم شبابنا عندما يأتون إلى بلاد الغرب تنقلب تصرفاتهم رأساً على عقب، حيث تبهرهم الحياة الجديدة وهيمنة التكنولوجيا في تفاصيل هذه الحياة وهي المتاحة لهم ويتداولونها بين أيديهم، فينجرون وراءها دون الفصل بين الجيّد والمفيد وبين السيء والضار منها. ومن هنا تبدأ الشكوى والتذمر من أن والديهم لا يفهمونهم ولا يراعونهم وهم يمارسون حياتهم في زمنهم الجديد، لذلك يحاولون الانسلاخ عن مواقف وثوابت ورغبات الوالدين كوسيلة لإثبات وتأكيد تفردهم وتمايزهم ممّا يستلزمهم معارضة سلطة الأهل، لأن الأهل في نظرهم أصبحوا «دقّة قديمة»، فيروحون يتصرفون من خلال سلوكيات عصبية مصحوبة بتشنجات العناد، فهم يريدون أن يحققوا مطالبهم بالقوة والفرض عدا عن التوتر الذي يسبب إزعاجاً للمحيطين بهم، وخاصة في حالة اختلاطهم بـ«رفاق السوء».
لقد أثبتت الدراسات العلمية المختصة في الولايات المتحدة أن المراهقين في الأسرة المتماسكة ذات الروابط القوية التي يحظى أفرادها بالرؤيا المشتركة واتخاذ القرارات المصيرية في مجالس عائلية محببة يشارك فيها الجميع ويهتم أفرادها بشؤون بعضهم البعض، هم الأقل في المعاناة من الضغوط النفسية، والأكثر إيجابية في النظرة إلى الحياة وشؤونها وتحديد مشاكلها، في حين أن أقرانهم الآخرين الذين يحيون في بيئة مغايرة يكونون أكثر عرضة للاكتئاب والضغوط النفسية.
وقد أجمعت الدراسات الحديثة في طب النفس على أن الأذن المصغية في تلك المرحلة العمرية هي ضمانة الحل لمشاكل المراهقين، كما ضرورة إيجاد التوازن بين الاعتماد على النفس والخروج من دائرة النصح والتوجيه عبر فرض الأمر، وهنا يأتي الدور الحاسم من قبل الأهل، حيث يتوجب إصدار التوجيه بإضفاء روح الصداقة والتواصل الودود وتبادل الآراء والخواطر بسلاسة وتفاهم مشترك، وبناء جسر الصداقة هذا من أجل أيصال الأفكار ونقل الخبرات بلغة الصديق والأخ لا بلغة ولي الأمر، وذلك هو السبيل الأمثل لتكوين علاقة حميمة بين الآباء وأبنائهم في سنّ المراهقة، على أن لا ينسى الوالدان أنهما هما أيضاً قد مرّا بهذه المرحلة وعليهما تلافي ما كانا قد تعرضا له من المنغصات… أبعدكم الله عن كل ما ينغص حياتكم!
Leave a Reply