حسن خليفة – «صدى الوطن»
الوشم -أو «التاتو»- ظاهرة قديمة، وقد عرفته معظم الشعوب والجماعات في مراحل مبكرة من التاريخ، ومارسته لأغراض متعددة، اختلطت فيها التقاليد العرقية بالطقوس الوثنية والعقائد الدينية والبيانات السياسية والاستطبابات العلاجية.
وقد شهدت هذه الظاهرة انتشارا واسعا في العقود الأخيرة، لاسيما في العالم الغربي، بسبب تطور التقنيات والأدوات والأصباغ المستخدمة فيه، ودخول تأثيرات الفن التشكيلي على الخط، حتى أنه أصبح موضة دارجة بين مشاهير الفن والرياضة، إضافة إلى استقطابه فئات واسعة من الشباب، إذ بيّن مسح أجراه «مركز بيو للدراسات» في العام 2006 أن 36 بالمئة من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً يحملون وشماً واحداً على الأقل، كما أظهر استبيان في العام 2008 أن الأميركيين البالغين الموشومين تبلغ نسبتهم حوالي 14 بالمئة.
في المقلب الآخر، ما يزال متعذّراً على بعض الثقافات قبول التوشيم لأسباب دينية واجتماعية تتفاوت في شدتها وحساسيتها بين مجتمع وآخر، لاسيما وأن الوشم ارتبط عبر حقب تاريخية طويلة بالسجناء والزعران وأفراد العصابات ومثيري المشاكل، كما أحاطت به نظرة دونية كونه عُرف كواحد من أشهر عادات الغجر.
ويأتي المجتمع العربي في طليعة تلك المجتمعات، ويمكن إرجاع هذا الرفض للظاهرة، أو التحفظ حيالها، بسبب تحريمها في معظم المذاهب الإسلامية. وقد انتقلت هذه المواقف الاجتماعية والدينية من التوشيم إلى المجتمعات العربية في المهاجر، وفي مقدمتها مجتمع الجالية العربية في الولايات المتحدة، حيث تتداخل التأثيرات الثقافية بين المجتمعين فتتغير الحساسيات إزاء بعض القضايا والسلوكيات، إيجاباً أو سلباً، بمعنى أنها قد تزيد في سياقات التمسك بالخصائص الثقافية، أو تنحسر في إطار التأثر بالعادات والأفكار الأميركية.
هذه أنا!
لعل العربية الأميركية شادية أمين تكون خير مثال على من اختبر حساسية هذا الموضوع في الجالية العربية، فقد وجدت نفسها -وهي تتحضر ذات يوم لتسلم جائزة محلية في مدينة ديربورن، تدعى «جائزة التأثير»- مهمومة بارتداء قميص بأكمام طويلة لكي تغطي الوشوم المنتشرة على كامل ذراعيها، في محاولة منها لتجنب الإحراج ونظرات الحاضرين من أبناء الجالية في حفل التكريم.
لكن أمين، التي تعمل كمساعدة ممرضة في مدارس ديربورن العامة، ارتأت أخيراً أن تلك الوشوم لا تعيبها فقررت أن تظهر كما هي، مكررة لـ«صدى الوطن» ما قالته لنفسها في ذلك اليوم: ليس لدي ما أخفيه!
رسوم «التاتو»، الذي يعرف عند العرب بـ«الدقّ»، تملأ قرابة نصف مساحة جسد أمين، فعلى ظهرها تبدو صورة ملاك يحدق متجهما في عيون من يسترقون النظر إليها من الخلف، وعلى ساعِدها تتفرع شجرة أرز تنثر نجوما حمراء وزرقاء وخطوطا تحتضن إسم الجلالة (الله) مكتوباً بخط عربي ذي تشكيلات فنية.
إن مثل هذه الوشوم التي تستهلم الخصوصية الثقافية وتعبيرات الانتماء الوطني منتشرة جداً في أوساط الموشومين من العرب الأميركيين الذي يميلون إلى الاعتزاز بثقافتهم المختلطة من خلال اختيار تصاميم فنية تمتزج فيها الخصائص الغربية بالشرقية على نحو يعكس هوياتهم الجديدة، المتنوعة ثقافياً وحضارياً.
وعلى الرغم من كون الوشم مايزال مرفوضاً على نحو واسع في الثقافات الشرق أوسطية، وفي المجتمعات الإسلامية، إلا أن أمين تعتبر جسدها منصة لاستعراض الذكريات وتخليد الأحبة، بما يذكّر بالدروس المستفادة من الحياة.
أكبر الوشوم ينتشر على كامل ظهر أمين، ويصور امرأة بشعر زهري على هيئة ملائكية وهي تلقي نظرة من وراء الكتف. وتمثل هذه اللوحة فترة مظلمة من حياة صاحبتها التي اختارت نسيان الماضي، بحسب أمين التي أضافت: «يمثل هذا الوشم اللحظات الأقل سعادة في حياتي، وقد اخترت أن أحمله على ظهري لأقول إن تلك الفترة المظلمة من الماضي قد أصبحت ورائي».
أما بالنسبة لشجرة الأرز ذات الجذور الحمراء المرسومة على ساعدها، فهي تشير إلى دماء اللبنانيين الذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن وطنها الأم، وتحمل الشجرة شمعدانين يمثلان قدرة بلدها الأم على تجاوز محنة الحرب، فيما تبدو تفصيلات صغيرة وراء الشجرة للترميز عن تنوع المجتمع اللبناني الذي يتطلع إلى التعايش.
وفي لوحة أخرى تحمل الكثير من المعاني بالنسبة لأمين، تتجاور ثلاث شجيرات خضراء تحلق فوقها طيور سوداء وصفراء، ثم تبدو عبارة تقول: «كل شيء سيكون على ما يرام»، وهي عبارة مقتطفة من أغنية بوب مارلي الشهيرة «ثلاثة طيور صغيرة».
«تاتو» أم «تابو»؟
وتقول أمين الموشومة بـ11 وشماً إن والدتها أبدت استغرابها وامتعاضها حين رأت وشمها الأول. حدث ذلك عندما كانت في أوائل العشرينات من عمرها. ولحظة انحنت الشابة كي تحمم ابنها الرضيع، شاهدت الأم الوشم في أسفل ظهر ابنتها، فعلقت أمها قائلة: أنت غبية!
مثل هذا التعليق قد يكون متوقعا من قبل الأسر العربية التقليدية التي تتخذ موقفاً سلبياً من التوشيم، لكن والدي أمين هما من الآباء العرب الذين عاشوا طوال سني حياتهم في الولايات المتحدة وقد نشآا على القيم الليبرالية المنفتحة. أما عندما تزور أمين جدتها فهي تحافظ على ارتداء ملابس تغطي الوشوم المنتشرة على ذراعيها وصدرها، وذلك لكي تتجنب إثارة حفظية جدتها واستيائها التي تنظر الى الوشوم على أنها من المحرمات (تابو).
بدوره، يشارك بلال أمين شقيقته شادية التجربة نفسها، على أن جسده يمتلئ بوشوم يفوق عددها تلك التي عند أخته. ويرى بلال الذي يعمل مديرا للدعاية في مركز «هايب» الرياضي في مدينة ديربورن هايتس أن وشومه تعكس محطات هامة من حياته الشخصية، وأنها وفرت له فرصاً كثيرة -عبر السنين- لإجراء أحاديث مع آخرين حول مواضيع ترتبط بهويته الثقافية ودينه.
ظاهرة متزايدة
على ذراعه الأيسر تنتشر أسماء عائلته، فيما وشم ذراعه الأيمن بسيف الإمام علي بن أبي طالب، وفي العديد من أنحاء جسده الأخرى، انتشرت وشوم الآيات القرآنية، المنقوشة بالخط العربي، بأنواعه الفنية المتعددة. ولدى بلال 17 وشماً، ولكل وشم قصة خاصة، ففي أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان، عام 2006، قرر الشاب اللبناني وشم جسده بأرزة العلم اللبناني بطريقة فنية تتمدد فيها جذورها إلى ظهره ترميزا لقوة لبنان وخروجه منتصرا في تلك الحرب.
غالبا ما تنتهي حواراته مع الآخرين إلى خواتيم طيبة، فمعظم هؤلاء الذين يسيئون فهمه في البداية ويظنون أنه «راكب دراجات نارية أو أحد أفراد العصابات» ينتهي بهم الحال إلى تكوين فكرة عامة عن العرب والمسلمين الأميركيين، بحسب ما قال لـ«صدى الوطن». وأشار إلى تكاثر أعداد الموشومين من الشبان العرب، سواء هؤلاء الذين يلتقيهم في المراكز الرياضية، أو غيرهم من الجيران في حيه، وقال: لقد أصبح «التاتو» دارجاً بين العرب الأميركيين.
وشوم سرية
على عكس شادية وبلال، رفض «حسين» الإفصاح عن إسم عائلته خوفاً من أن يعرف جيرانه، وأغلبهم من المهاجرين الذين ينظرون بشكل سلبي الى أصحاب الوشوم، أن قميص الـ«تي شيرت» الذي يرتديه يغطي الكثير من الوشوم التي تملأ صدره. وأشار إلى أنه يهتم بالوشوم التي يمكن إخفاؤها بسهولة، فهو يعتبرها أشياء خاصة ولا يتطلع إلى عرضها أمام الآخرين.
على كتفه الأيمن، كتب اسم ابنه علي، فيما «يتدلى» على صدره وشم لمسبحة عملاقة. ويتذكر في سياق التعليقات على وشومه أن والده وصفه بـ«الأزعر» حين رأى تلك الوشوم في إحدى المرات.
يبدي حسين تفهمه لحقيقة أن الوشم لا يناسب جميع الأشخاص، مشيرا إلى أن «عجقة» الوشوم قد تساهم في كثير من الأحيان في تلطيخ الأجسام بوشوم فوضوية بسبب طبيعة الحبر الذي من الصعب إزالة آثاره، لاسيما وأن البعض يتسرعون في اختيار الوشوم التي يفضلونها، ثم تتبدل أراؤهم لاحقاً مما يدفعهم إلى اختيار وشوم أخرى وهكذا. ونصح حسين الراغبين بالوشم أن يختاروا الفنان (الواشم) المناسب، الذي يتقن التوشيم بالطرق الآمنة والنظيفة.
أمثال حسين ممن يرغبون في إخفاء وشومهم كثيرون في مجتمع الجالية العربية، وفي هذا السياق يقول فنان الوشم «هابي» (من مدينة وايندوت) الذي صمم ونفذ وشوما لكل من شادية وأخيها على مدى 12 عاماً: إن العديد من العرب يقصدونه، في أحيان كثيرة من أجل السرية وتجنب الثرثرة في مجتمعهم. وأضاف: هنالك الكثيرات من أمثال شادية، وبعضهن محجبات، لديهن وشوم ولا يعلم أصدقاؤهن وعائلاتهن بذلك، مؤكداً على أن التاتو بات أكثر انتشار وقبولا مقارنة بالعقود الماضية، حيث كان الوشم محصوراً تقريباً بالمتمردين.
وفي الوقت الحاضر، يظهر «هابي» ثقة أكبر في تصميم أشجار الأرز، وسيف الإمام علي، ومختلف أنواع التصاميم الفنية لكلمة «الله»، في إشارة إلى ازدياد زبائنه من العرب والمسلمين الأميركيين. ويضيف مازحا: «يسمونها الأمركة.. أنا أدعوها عيش الحياة بكل بساطة».
Leave a Reply