جيمس زغبي
في الوقت الذي كان الكونغرس الأميركي يُصوت على المضي قدماً في مساءلة الرئيس الأميركي، كان دونالد ترامب يلقي خطبة نارية على حشد من أنصاره في ميشيغن. وانتقد ترامب الكونغرس وسخر من منافسيه «الديمقراطيين» ووضعهم في إطار الأشرار وتباهى بـ «انتصاراته الكثيرة» واستمد طاقته من جمهوره المتحمس. وما تمخض عما أسماه «خديعة» و«احتيال» و«حملة اضطهاد» هو بالضبط ما كان يريده، رغم دأبه على الشكوى من مسعى مساءلته. والواقع أنني أعتقد أن دونالد ترامب أراد أن تمضي عملية المساءلة قدماً.
فمنذ أن أدى اليمين الدستورية لتولي المنصب عام 2017، استفز الرئيس الأميركي «الديمقراطيين» بالسخرية، فيما يبدو، كي يقدموا على هذه الخطوة بعينها. وهنا لا أتحدث عن أوامره التنفيذية المثيرة للخلاف بشدة، أو خطبه المترعة باللغة غير اللائقة، فلا شيء من هذا يمثل انتهاكات تستوجب توجيه الاتهام للرئيس، بل أراد ترامب بهذه اللغة إثارة وتحفيز أنصاره واستفزاز خصومه. ومع الاقتراب نحو المساءلة، عكف ترامب على تجاوز الحدود بتصرفات أكثر خطورة. وانتهك مراراً، على سبيل المثال، فقرةً في الدستور تحظر حصول شاغل المنصب العام على هدايا وأموال من أطراف خارجية، وأقال، أو هدد بإقالة أفراد، يحققون بشأنه أو بشأن مساعديه، وتباهى بعلاقته المثيرة للجدل والمشكوك فيها مع الروس ورفض طلبات ومذكرات من الكونغرس تطلب وثائق أو الإدلاء بشهادة.
ومنذ أن سيطر «الديمقراطيون» على مجلس النواب عام 2018 وهم يتعرضون لضغوط شديدة، كي يتصدوا لتصرفات ترامب غير المقبولة. وترددت قيادة الحزب في التقام الطعم. لكن ما دفعهم، في النهاية، إلى التحرك كانت شكوى من مثير شائعات زعمت أن الرئيس استغل سلطة منصبه، وعلق مؤقتاً مساعدة عسكرية أميركية للضغط على الحكومة الأوكرانية لتدشن تحقيق في مزاعم بالفساد، ربما تورط فيها نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن، أحد أبرز منافسي ترامب «الديمقراطيين» المحتملين في السباق الرئاسي عام 2020.
ولعدة أسباب، لم تكن نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب ولا قيادة الحزب «الديمقراطي» يريدون الانتقال مباشرة إلى مساءلة للرئيس. فقد أرادوا أن يركز «الديمقراطيون» على بناء سجل تشريعي، وألا يسمحوا لأنفسهم بأن يتشتت انتباههم بعرض جانبي يقدمه البيت الأبيض. ولم يرد «الديمقراطيون» أيضاً أن يعطوا لترامب مظلمة جديدة يكسب بها تعاطف أنصاره. وأخيراً، كان «الديمقراطيون» يعلمون أن مجلس الشيوخ بهيمنة «الجمهوريين» عليه لن يصوت أبداً للتخلص من ترامب من المنصب إذا أدين فيما نسب إليه من اتهام، مما يجعل العملية برمتها محض تدريب على الفشل. ولهذا قرر «الديمقراطيون» في بداية الأمر تدشين تحقيق فحسب، دون الالتزام بعملية المساءلة.
لكن ما أن بدأت العملية، حتى صعّد ترامب الأمور. ورفض الاستجابة إلى طلب تقديم وثائق أو السماح لمسؤولي الإدارة بالظهور أمام لجنة التحقيق في مجلس النواب، وانتقد الزعماء «الديمقراطيين» المتورطين في العملية واستفزهم. وفي النهاية، لم يترك ترامب لـ«الديمقراطيين» خياراً سوى أن يمضوا قدماً في عملية المساءلة. ورغم هذا استمرت عرقلته الغريبة للعملية. ففي جانب، استنكر العملية باعتبارها «أحادية الجانب» وفادحة الجور. وفي الوقت نفسه، رفض السماح لمعاونيه ومسؤولي البيت الأبيض بأن يدلوا بشهاداتهم ليضمن أن تكون العملية أحادية الجانب.
والآن، يتعرض ترامب للمساءلة، ورغم احتجاجاته وغضبه المفتعل، أعتقد أن هذا الرئيس راضٍ عن نفسه إلى حدٍ كبير. فعلى خلاف السياسيين الذين خاضوا الانتخابات ومارسوا الحكم عن طريق محاولة توسيع قاعدة دعمهم، ركز ترامب حصرياً على قاعدة أنصاره، مزاوجاً بين ترضيتهم وتحريضهم. أنه شخصية مثيرة للشقاق، وينتعش على مشاعر الحب والخوف التي ينتجها. فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن دعم ترامب وسط «الجمهوريين ظل يراوح حول 85 بالمئة أثناء عملية توجيه الاتهام له، وأن الانقسام الحزبي في أقصى درجاته على الإطلاق، بينما الدعم له وسط «الديمقراطيين» أقل من 10 بالمئة. وإجمالي التأييد له وسط الأميركيين يبلغ نحو 42 بالمئة. ونظراً للمشاركة الانتخابية المنخفضة تاريخياً، يعتقد ترامب وزعامة الحزب «الجمهوري» أن هذه القاعدة التي تم حشدها بشكل ملائم عن طريق الغضب والخوف، ستشكل كتلة تصويتية كبيرة بما يكفي لتستطيع تحقيق الفوز عام 2020.
وهذا يمثل أحد الأسباب التي جعلت هذه المساءلة مختلفة للغاية عن عمليات المساءلة السابقة لكل من ريتشاد نيكسون أو بيل كلينتون. فقد كان تأييد «الجمهوريين» لنيكسون منخفضاً بشدة أثناء عملية توجيه الاتهام، ثم أُجبر نيسكون على الاستقالة. وكلينتون اعتذر عن طيشه الجنسي، وارتفعت نسبة التأييد له بالفعل بسبب اضطراب «الديمقراطيين» و«الجمهوريين» من فكرة أن يحاكم الكونغرس الرئيس بشأن موقف محرج. ولا يبالي ترامب ولا الحزب «الجمهوري» بشأن المساءلة. فلا إحراج في الأمر ولا ضغط من أجل الاستقالة. والواقع أن ترامب مستعد على ما يبدو لأن يستغل مساءلته كحجة داعمه له في انتخابات 2020. وهذا لن يزيد بلادنا إلا انقساماً. لكن هذا هو ما أراده ترامب أصلاً.
Leave a Reply