تشير الإحصاءات إلى أنّ عددَ المسلمين في الولايات المتحدة الأميركيّة في سنة 1970 كان فقط 100,000 مسلم، وارتفع هذا العدد في سنة 2008 ليصل إلى 9 ملايين مسلم، وكما نشر على موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة، أنّ عدد المسلمين في الثلاثين سنة القادمة من المتوقّع أن يرتفع إلى 50 مليون مسلم، وكما تشير عمليّات المسح الصادرة عن مركز الأبحاث الإجتماعيّة في جامعة جورجيا الأميركية، إلى أنّ الإسلام أسرع الأديان انتشاراً في الولايات المتحدة، ويعود سبب هذا الانتشار إلى ثلاثة عوامل رئيسيّة هي:
1- الهجرة الكبيرة للمسلمين من مختلف البلدان الإسلامية إلى أميركا، هاجروا إليها بسبب سوء أوضاع بلدانهم الاقتصادية والسياسية والدراسية والامنية.
2- ارتفاع معدّل الولادات للعائلة الاميركية المسلمة الذي يصل الى 8 بالمئة قياساً إلى معدّل الولادات للعائلة الأميركية الذي لا يتجاوز 1,6 بالمئة، أي أقل من معدل النموّ السكّاني الطبيعي الذي يجب أن يكون 2,1 بالمئة لأيّة حضارة تريد الحياة والاستمرار.
3- بحسب تقرير لقناة «أن بي سي»، هناك 20,000 ألف أميركي يعتنقون الاسلام سنويّاً، وأنّ هناك أكثر من 2300 مدرَسة ومنظّمة ومسجد ومركز إسلامي يرتاده المسلمون في أميركا، وفي الثلاثين سنة القادمة من المتوقّع أن يرتفع العدد إلى ستة أضعاف.
ينقسم المسلمون إلى عدّة إثنيّات مختلفة، تتراوح تقديرات الأميركيّون الافارقة المسلمين إلى ثلث المجموع العام، أمّا المجموعات الإثنيّة الأساسيّة الأخرى من المسلمين الأميركيّين فهم من العرب والآسيويّين الجنوبيّين والهنود والباكستانيّين والبنغلاديشيّين والأفغان والإيرانيّين.
ووفقاً لاستطلاع الرأي في سنة 2007 الذي أجراه مركز (بيو) للأبحاث، الذي مقرُّه واشنطن، أنّ 65 بالمئة من المسلمين الأميركيّين هم مهاجرون من الجيل الأوّل، وأنّ 61 بالمئة من المولودين منهم في الخارج قدِموا في عقد التسعينات والعقد الماضي، كما كشف الإستطلاع أنّ 77 المئة من المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة هم مواطنون أميركيّون.
هذا النموّ السريع للمسلمين يجعلهم بأمسِّ الحاجة إلى وضع استراتيجيّة قويّة وفعّالة للتعايش مع الأديان الأخرى، وإلى تفعيل نقاط الإلتقاء بين هذه الاديان بالشكل الذي ينتج أرضيّة مناسبة للإنطلاق في عملٍ جماعي إجتماعي فكري واقتصادي موحَّد، إذ لابدّ من التعريف بثقافتنا ونهجنا وذلك من خلال الكتابات والفضائيات وإقامة المهرجانات والمؤتمرات الثقافيّة والفكريّة المشترَكة، تعريف الآخرين بأنّنا أمّةٌ تحبُّ السلمَ والسلام وترفض العدوانَ وترغب في البناء والإعمار والمشارَكة الحقيقيّة في خدمة المجتمع والحضارة الجديدة، لابدَ أن نعطي مساحةً كافية للشباب المسلم الواعي والقادر على إيصال المعلومة ممّن تتوفّر فيهم القدرات اللغويّة والفكريّة والثقافيّة، لأنّ الشبابَ هم حلقة الربط الرئيسيّة في عالم التعايش الحضاري.
من المعروف أنّ الديانةَ الاسلاميّة تلتقي مع الأديان الأخرى في عددٍ لا يُحصى من القيَم والمبادئ الدينيّة والإنسانيّة، لعلّ أوّلها هو الإعتراف بوجود الله عزّ وجل، ومحاربة الظلم والطغيان، والإيمان بالفطرة الانسانية وبالقيَم العائليّة وبالتكافل الاجتماعي وبحقوق الإنسان والاشتراك بمنظومة أخلاقية، أي انّ هناك قاعدة مشترَكة يمكن أن ينطلق منها المسلمون وغيرهم لخدمة المجتمع والحضارة الجديدة، قاعدة قِيمية تؤمن بأنّ العمل الجمعي سوف ينتج فائدة روحيّة ومعاشية عالية، وبأنّ التواصل الاجتماعي الحقيقي بمختلف ألوانه قادر على تكوين مجتمع قويّ ورصين ومتماسك وغير قابل للصدع والإنكسار، وعلى المسلمين أوّلاً أن يتعلّموا ثقافة التعايش ويتعلّموا كيفيّة الإرتقاء بمفهوم العيش المشترك، لأنّ التعايش يبدأ من الذات الفرديّة، يتعايش الفرد ذاتيّاً مع الآخر، وذلك عندما يقبله وجدانيّاً ومعنويّاً، والدين الإسلامي الحنيف يشجّع على التعاون والعيش المشترك مع الأديان الأخرى، لأنّه يؤمن بحريّة الإعتقاد ولا يكره غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وكما قال الله تعالى في كتابه الكريم «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» و«وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» و«وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، إنّ هذه الآيات الكريمة تقطع الطريق أمام المُشكّكين بحريّة الإعتقاد والواقفين في طريق التقارب الإنساني بين الاديان.
إنّ أحد أهم مقومات وأركان العيش السليم هو القدرة على التعاون والمشاركة الفعّالة في مسرح الحياة، المشاركة الجدّية التي تزيد المجتمع ثباتاً وإيماناً ووفرةً في العطاء وقوّة ومنعة وسداداً، المشاركة التي تعكس صورة الإسلام المضيئة التي شوّهتها بعض الوجوه المحسوبة عليه، المشاركة التي تحافظ على الهويّة الإسلاميّة الحقيقيّة، ولا تكون بوّابةً للضياع في وحل الحضارات، نحن ندعو إلى التعايش الواعي والمدروس الذي يحافظ على القيم والمبادئ العقيديّة للمسلمين، وأن لا يُترك المسلمون يذوبون في مستنقع الإفلاس الروحي والمادّي، لم ينهِ الاسلام أتباعه من التعامل مع أصحاب الأديان الأخرى بل حثّهم على التعامل معهم، وذلك لما يتمتّع به من قيم إنسانيّة سامية، كالرحمة والتسامح والوفاء بالعهود واحترام العقود والبرّ والاحسان والقسط، وكما قال تعالى «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
إنّ مبدأ التعايش يعتمد على بعض القيَم والمبادئ التي لا بدَّ من توافرها لكي يكون التعايش ناجحاً ومثمراً، ومن هذه القيَم والمبادئ:
– أوّلاً: عدم الغلوّ في الممارسات والسلوك مع الآخر المختلف عنّا دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً وتربويّاً واجتماعيّاً، التشدّد الفكري في التعامل مع الآخرين سوف يفرز نتائج سلبية لا تخدم المجتمع وسيعمل على تمزيق وتفريق الجمع وتشتيت الصفّ وضياع الحقوق ودفع المقابل ليكون نِدّا لنا في الوقت الذي نحتاج فيه إلى كلّ صوت وموقف لبناء غدٍ مشرق وواعد لأطفالنا وأجيالنا، يتطلب من المسلم موقفاً وسطيّاً لكي يعطي المقابل المساحة الكافية للتفاعل، لأنّ الغلوَّ يعمي البصر والبصيرة وتكون نتيجته انهيار العلاقات مع تجريح معنوي ووجداني للمتعايشين، ولقد أوصى الله تعالى المسلمين بانتهاج منهج الوسطيّة والإعتدال في جميع تصرّفاتهم ومعاملاتهم، كما قال تعالى «وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ» جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين خيارَ عدل، فوهب أمّة محمد (ص) العلمَ والحلم والعدل والإحسان ليكونوا شهداء على الناس.
– ثانياً: إنّ الأحكام الإسلاميّة تنقسم إلى قسمَين، القسم الاول: ثابت وغير قابل للتغيير والتعديل والطعن ولا يخضع إلى المراجعة والتنقيح ويعتبر ركناً أساسيّاً من أركان العقيدة الإسلاميّة ولا يمكن المساومة عليه بأي شكل من الاشكال، مثل الشهادتين، الصلاة ، الزكاة، الحج، الصوم، والعدل، هذه الأركان تعتبر هويّة المسلم الحقيقيّة والإلتزام بها يعد جوهر العقيدة الإسلاميّة، أمّا القسم الثاني فهي أحكام متغيّرة تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأوضاع الإجتماعيّة، وذلك لكونها أحكام صيغت استناداً إلى نصوص ضعيفة وظنيّة في الدلالة والثبوت معاً أو في الدلالة دون الثبوت أو الثبوت دون الدلالة، إنّ إدراكَ هذه الفروق سوف يعصم المسلمين من الإنزلاق في المحظور عند ممارستهم لمبدأ التعايش وفي تأسيس علاقاتهم على أساس متين وغير قابل للإنهيار مع إعطاء صورة جميلة وواضحة للآخر ليقيم علاقته على فهم كامل وثابت ودائم، إنّ معرفة هذه الفروق سوف يجعل المسلمين يخطون خطوات ثابتة وجديّة في معترك الصراع البيئي والاجتماعي والثقافي بين الأمم.
– ثالثاً: هناك عدّة صور للتعايش، مثل التعايش الفكري والثقافي والإجتماعي والتربوي والإقتصادي ولكلّ صورة من هذه الصور آليّة مُعيّنة، فلا بدَّ من التطابق والتكامل بين الآليّة والصورة حتى نستطيع أن نصل إلى وحدة الهدف، عند ممارسة مبدأ التعايش ينبغي اختيار الوسيلة الناجحة ومحاولة توظيفها بالشكل الصحيح حتى نضمن علاقة وطيدة ودائمة ومثمرة، على سبيل المثال، المشاركة في أفراح وأتراح المقابل يستحسن أن يرافقها ارسال بطاقات تهنئة أوتعزية حسب المناسبة.
– رابعاً: أنّ أحد أهمّ مقوّمات التعايش هو الإعتراف بوجودِ الآخَرين واحترام إنسانيّتهم وتكريمهم والإحسان إليهم، إذ لا يمكن التعامل والتعايش مع الآخَرين إنْ لم يكن هناك اعتراف حقيقي بدورهم في المجتمع وحقّهم في الحياة، لا بدَّ من احترام كرامة الانسان والتعامل مع الآخر على أساس إنساني، بعيداً عن الفكر الملوّث، لقد كرّم الله بني آدم ووفّر لهم كل مسبّبات الحياة وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، إنّ أفضلَهم رتبةً ومنزِلة هو الذي يخاف الله، هو الذي يأمَن الناس مكرَه وكيدَه ويَدَه ولسانَه، لقد كرّم الله الانسان عندما فضّله على سائر المخلوقات الأخرى ووهب له عقلاً نافذاً وبصيرة ثاقبة، وكما قال الله تعالى «ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً».
إذن، نخلص من ذلك أنّ استراتيجيّةَ الحوار وإيجاد الوسيلة والآليّة المناسبة لتوطيد العلاقات الإجتماعيّة والفكريّة مع غير المسلمين هي من أهمِّ التحدّيات التي نواجهها اليوم، على اعتبار أنّ المسلمين الأميركيّين في الثلاثين سنة القادمة سيشكّلون نسبة مهمّة من المجتمع الأميركي قد تصل إلى 50 مليون مسلم، انتشارهم السريع في القارّة الأميركيّة سوف يرفع من درجة مسؤوليّتهم ويضعهم في موقع متقدّم للإشتراك في صناعة القرار الأميركي، فيجب عليهم أن يكونوا على قدر عالٍ من الوعي والإخلاص والقدسيّة في الواجب، لأنّه سيقع على عاتقهم واجب أكبر ومساهمة أوسع في بناء الثقافة الفكريّة والتربويّة والإقتصاديّة والسياسيّة للبلاد، فلابدّ للمسلمين الأميركيّين من رسم خارطة طريق للحياة وللتعايش، قادرين من خلالها على الدخول بقوّة في معترَك البناء والإنتاج والتخطيط لحياةٍ أفضل ومجتمعٍ متماسك.
Leave a Reply