يربط الدين الإسلامي الحنيف بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. فهل يفعل المسلمون، حينما يتحدّثون عن العلاقة مع الآخر وعن التعدّدية والتسامح واحترام حقوق الآخرين، ذلك حقّاً؟. إنّ الأمّة العربية تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ذلك ناسُها. الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية، بينما يسود واقع الأمَّة العربية الآن حال التخلّف والتفرقة والفئوية والتعصّب.
أجد في الآية 12 من سورة فاطر ما هو حكمةٌ بليغة ودرسٌ هام لمن لا يقبلون بالرأي الآخر، ولا يجدون الحقيقة والمنفعة إلاّ فيما هم عليه من معتقَد، وينكرون ذلك على المخالفين لهم. تقول الآية الكريمة:
{وَمَا يَستَوِى البحرَانِ هَـٰذَا عَذۡبٌ۬ فُرَاتٌ۬ سَآئغٌ۬ شَرَابُهُ وَهذا ملحُ أُجَاجٌ۬ وَمِن كُلٍّ۬ تَأۡكلُونَ لحماً طرياً وتستخرجون حليَةً۬ تَلبَسُونَهَاۖ وَتَرَى الفُلكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبتَغُواْ مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمۡ تَشكرُونَ} (12/فاطر).
فسبحان الله الذي خلق هذا التنوع والاختلاف في كلِّ خلقه، بما في ذلك الماء الذي جعل منه كلَّ شيءٍ حي، فإذا بالآية تؤكّد على أنّه بالرغم من عدم سواسية «البحرين»، أحدهما عذبٌ والآخر ملحٌ أجاج، فإنّ بينهما فوائد وقواسم مشتركة يستفيد منها الناس: أكل اللحم الطري، استخراج الحلي وتسيير السفن فيهما…
هكذا يجب أن تكون حكمة وأمثولة هذه الآية في كلّ أمور الناس وأفكارهم وأعمالهم وأشكالهم. فالاختلاف لا يعني عدم وجود قواسم ومنافع مشتركة يمكن البناء عليها بين «المختلفين».
وقد لجأتُ إلى هذه الآية الكريمة في تقديم ندوةٍ في «مركز الحوار» منذ عقدٍ من الزمن، دار موضوعها حول دور الدين في المجتمع، واشترك فيها مفكّرون لهم منطلقات دينية وآخرون منطلقاتهم علمانية، لتأكيد أهمية البحث عن المشترَك المفيد للناس، مهما اختلفت الآراء ومنطلقاتها.
ولعلّ أيضاً ما ورد في الآيتين 27 و28 من سورة فاطر ما فيه تأكيد على هذه الخلاصة:
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً۬ فأخرجنا بِهِ ثَمَرَاتٍ۬ مختلفاً أَلوانهاۚ وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٌ۬ وَحُمرٌ مختلف ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ۬ (٢٧) وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ والأنعام مختلفٌ أَلوانُهُ كَذَلِكَۗ إِنَّمَا يخشى اللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ العلماءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)}.
وليست سورة فاطر وحدها هي التي تدعو الناس والمؤمنين بالله عزّ وجلّ إلى حسن السلوك مع الآخر وإلى تفهّم حكمة الخالق تعالى بخلق الناس مختلفين، فالقرآن الكريم كلّه دعوة واضحة إلى الإيمان والعمل الصالح معاً. لكن مشكلة العالم الإسلامي الآن أنّه لا يتوازن مع تراثه الحضاري الإسلامي الذي يقوم على الحوار مع الرأي الآخر وعلى رفض الإكراه في الدين:
في القرآن الكريم نجد الآيات:
– ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحِكْمةِ والمَوْعظةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالتي هيَ أحسنُ (سورة النحل – الآية 125).
– أفَأنْتِ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين (سورة يونس – الآية 99).
– وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا (سورة الحجرات – الآية 13).
– مَنْ قتلَ نفساً بغيرِ نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنَّما قتَلَ النَّاسَ جميعاً ومَنْ أحياها فكأنِّما أحيا النَّاسَ جميعاً (سورة المائدة – الآية 32).
– وَعِبادُ الرَّحمنِ الذين يَمشونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلاماً (سورة الفرقان – الآية 63).
– وكذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً لتكونوا شُهداءَ على النَّاسِ (سورة البقرة – الآية 143).
– وَمَا أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً للعالمين (سورة الأنبياء – الآية 107).
هذه نماذج قليلة من كثيرٍ ورَدَ في القرآن الكريم، كتاب الله الذي يكرّر المسلمون قراءته (بل ويحفظونه غيباً أحياناً)، لكن الهوّة سحيقةٌ أيضاً بين من يقرأون وبين من يفقهون ما يقرأون.. ثم بين من يسلكون في أعمالهم ما يفقهونه في فكرهم!.
فلِمَ يتواصل استهلاك الجهود والطاقات الفكرية في العالم الإسلامي عموماً بالعودة المتزمّتة والمتعصّبة إلى اجتهاداتٍ وتفسيراتٍ كانت خاضعةً لزمنٍ معيّن في مكانٍ محدّد؟ ولماذا هذا الانحباس لدى المسلمين في «كيفيّة العبادات» بدلاً من التركيز على «ماهيّة وكيفيّة المعاملات» بين الناس أجمعين؟ ألم يقل الحديث النبوي الشريف إنّ «الدين هو المعاملة»؟. ولِمَ لا يتمّ استخلاص مجموعة من القواعد والقيم والمفاهيم لوضعها بشكل إعلان مبادئ إسلامية (مثل إعلان مبادئ حقوق الإنسان) لتشمل مواضيع: الشورى والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ومواصفات الدعاة والعمل الصالح، وواجبات أولي الأمر والحكّام وما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، بحيث تصبح مرجعيةً لكلّ المسلمين ومنارةً أيضاً لغير المسلمين لفهمٍ أفضل للإسلام؟ ففي ذلك مرجعيةٌ هامّة لمحاسبة الحاكم والمحكوم معاً، ولبناء أي وطن وكل مواطن، وفي ذلك أيضاً دعوةٌ لكلّ الدول الإسلامية للاستناد إلى هذه المرجعية من القيم والمبادئ، بدل التوقّف حصراً على موضوع اجتهادات الفقهاء السابقين في التفسير والشريعة.
***
أيضاً، لِمَ لا يتحقّق الاتفاق على أنّ الدعوة للفكر الإسلامي في المنطقة العربية هي في أحد جوانبها دعوةٌ لإعادة تصحيح خطيئة تاريخية استهدفت عزل هذه المنطقة عن هويّتها الحضارية وعن دورها العالمي.. وعلى أنّ الدعوة للفكر القومي العربي هي أصلاً لإعادة تصحيح خطيئة جغرافية استهدفت تجزئة المنطقة وتمزيق هويّتها الثقافية الواحدة.
في الحالتين، لا تعارض على الإطلاق بين العمل من أجل خدمة الإسلام والعمل من أجل العروبة، وأنّ كلاً منهما يخدم الآخر ويساهم في رسالته. وأيضاً بأن لا تعارض بين مشروع سياسي قومي يستهدف تكامل المنطقة العربية لصالح كلّ أبنائها، وبين أي مشروع سياسي قائم على القيم الدينية يستهدف صالح الإنسان وتقدّمه.
فهل، على سبيل المثال، يجد المسلمون في أوروبا تناقضاً بين مضمون دينهم وبين الوحدة التي حدثت بين الدول الأوروبية؟ وهل يتضرّر المسلمون في أميركا من الاتحاد بين ولاياتها؟.
أجد الفارق بين دعاة الدين في المنطقة العربية وبين دعاة العروبة مثل الفرق بين دور القطاعات المختلفة للجيش الواحد، قد تثور بينها حساسياتٌ ومنافسات، لكنّها كلّها مستهدَفة في المعارك، وعليها كلّها واجب التكامل والدفاع عن الأمّة.
فكيف يمكن أن تُصان وحدة الثقافة ووحدة الحضارة إذا لم تُصَن وحدة الأرض ووحدة الشعب؟ والعكس صحيح أيضاً.
أيضاً، أيّهما يجب تغييره أو إصلاحه أولاً: الحكم أم المجتمع؟ وهل إصلاح نظام الحكم سيؤدّي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟ العلاقة بين المسألتين هي طبعاً جدلية، لكن من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم. فالحركات السياسية الدينية، حينما تعطي الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية، ثمّ عملاً سياسياً يومياً وصراعاتٍ لاحقة على السلطة والمناصب.. بينما إصلاح المجتمع أولاً يعني بناءً سليماً للدعوة والدعاة، ويوجب حسن الأسلوب والتعامل مع الآخر في المجتمع، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن التحزّب والمصالح الخاصة.
هنا أهمّية دور «الآخر» في المجتمع العربي التعدّدي، وهذا «الآخر» قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو إثني أو حتّى عقائدي وحزبي. لكن المعيار ليس بإقرار حقّ وجود «الآخر» فقط، بل بحقّه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وفي المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كمواطنٍ متساوٍ مع المواطن الآخر في كلّ الحقوق والواجبات.
Sobhi@alhewar.com
Leave a Reply