هناك سماتٌ مشترَكة بين كيفية نشأة دولة إسرائيل على أيدي العصابات الصهيونية المسلّحة وبين ظهور «دولة داعش» باسم «الدولة الإسلامية». ففي الحالتين جرى استخدام الدين لتبرير قيام الدولة، وفي الحالتين أيضاً جرى الاعتماد على خبرات عسكرية مهمّة لتحقيق الأهداف، حيث استخدمت العصابات الصهيونية قادة وعناصر من الذين خاضوا المعارك في الحرب العالمية الثانية، بينما تستخدم «داعش» العديد من المرتزقة الأجانب، إضافةً إلى ضباط وجنود سابقين في الجيشين العراقي والسوري. وكما كان تأسيس إسرائيل تثبيتاً لتقسيم الأرض العربية والمشرق العربي عن مغربه، فإنّ هدف وجود «داعش» هو أيضاً تقسيم الأوطان العربية التي ظهر بها هذا التنظيم.
ولعلّ من السّمات المشتركة الأخرى بين عصابات الصهيونية وداعش تجسيدهما لفكر التطرّف باسم اليهودية والإسلام في زمن يتصاعد فيه أيضاً التطرّف في الدول الغربية ذات الغالبية المسيحية.
فالتطرّف، الذي هو نقيض الاعتدال، حالة قائمة في البشرية منذ وجودها. وهي تظهر في الأفراد والجماعات والحكومات، بغضِّ النظر عن موقعها الجغرافي أو هويّاتها الثقافية أو الدينية. كذلك هو العنف الذي رافق تاريخ الإنسانية منذ مقتل هابيل على يد شقيقه قابيل، وكلاهما من أبناء آدم عليه السلام.
ونجد في التاريخ، وفي الحياة المعاصرة، من هم ضدّ العنف كمبدأ، ولا يقبلون أيَّ تبريرٍ له حتّى لو كان دفاعاً عن النفس، ويصرّون بالمقابل على استخدام أسلوب المقاومة السلمية كوسيلة لتحقيق أهدافهم. وكان السيّد المسيح عيسى، عليه السلام، داعياً لهذا المبدأ، كذلك حرّر المهاتما غاندي الهند من الاحتلال البريطاني في إصراره على هذا المبدأ وأسلوبه اللاعنفي. وأيضاً قاد رجل الدين المسيحي الأميركي مارتن لوثر كينغ حركة الحقوق المدنية في أميركا، خلال عقد الستّينات من القرن الماضي، وقُتل وهو يدعو إلى المقاومة المدنية اللاعنفية.
والملفت للانتباه، أنّ هذه النماذج الثلاثة من دعاة مبدأ اللاعنف قد اختاروا العذاب أو الموت على يد خصومهم، كثمن لإصرارهم على الحقّ الذي يدعون إليه، ولم يطالبوا أتباعهم بعمليات انتحارية، بينما هم بأوكارهم مختبئون!
لكن سيرة الحياة البشرية لم تأخذ بسيرة ومبدأ هذه النماذج، حيث جرى «تقنين» العنف في أكثر من شريعة دينية ودنيوية، وأصبح التمييز قائماً بين العنف الإجرامي وبين عنفٍ مشروع تستخدمه الحكومات والجماعات والأفراد، ويدخل في إطار «حقّ الدفاع عن النفس» ضدَّ المعتدي المباشر، وفي حدود وضوابط تختلف تبعاً للمكان والزمان وكيفيّة فهم النصوص.
إنّ الظاهرة المعاصرة للتطرّف العنفي، باسم الإسلام ومن خلال أسلوب الإرهاب، هي شاملة لمجموعة عناصر، كلُّ واحدٍ منها له خصوصياته، غير أنّ الضوابط الإسلامية بقيت واضحة تماماً في هذا المجال، حيث النصّ القرآني:
«وقاتِلُوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يقاتِلونَكُم وَلا تَعتَدوا، إنّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدين». (سورة البقرة/الآية 190).
«منْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً» (سورة المائدة/الآية 32)
وجاء في النصّ القرآني أيضاً ما يؤكّد على الاعتدال ورفض التطرّف:
«وكذلِكَ جعلناكُمْ أمَّةً وسَطاً لتكونوا شُهَداءَ على النّاس…». (سورة البقرة/الآية 143)
وفي النصّ القرآني أيضاً:
«وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمةً للعالمين». (سورة الأنبياء/الآية 107)
«ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى». (سورة فاطر/الآية 18)
«ولا تستوي الحسَنةُ ولا السيّئةُ ادْفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ فإذا الذي بينَكَ وبيْنَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم». (سورة فُصِّلت/ الآية 34)
«وتَعاونوا على البِرِّ والتَّقوى وَلا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان». (سورة المائدة/الآية 2)
***
إذن، في الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء –وهو مضمون المصطلح المتداول الآن (الإرهاب)– مهما كانت الظروف والأعذار حتّى ولو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب.
وفي قول هابيل لقابيل حكمةٌ بالغة لمن يعي معنى هذه الآية القرآنية:
«لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطٍِ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إنّي أُريدُ أن تبُوْأَ بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين». (سورة المائدة/الآيتان 28 و29).
***
ورغم وضوح النصوص القرآنية، وكذا الشواهد في السيرة النبوية وفي الدروس المستفادة من سيرة الخلفاء الراشدين، فإنّ العالم الإسلامي شهد ويشهد «جماعات إسلامية» عديدة أباحت وتبيح أسلوب الإرهاب (قتل الأبرياء) وتخلط بينه وبين استخدام العنف المسلّح المضبوط دينياً ودنيوياً.
طبعاً لا مقارنة بين ما قامت به هذه الجماعات باسم الإسلام، وبين ما قامت وتقوم به حكومات ومنظّمات في مختلف أنحاء العالم من أعمال إجرامية ضدّ الأبرياء والمدنيين في أكثر من مكان، لكنْ من قال إنّ المبادئ والقيَم الإسلامية خاضعة للمقايضة أو للتنازل لصالح أساليب الجاهلية في الثأر والانتقام من غير قيدٍ أو ضابطٍ دينيٍّ وأخلاقيّ؟
إنّ التفسير السائد الآن بأنَّ سياسات الدول الكبرى، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأراضٍ عربية أخرى، هو المسؤول عن بروز ظاهرة «الإرهاب الإسلامي»، لهو تفسير سطحي لا يلغي احتلالاً ولا يضع حدّاً لهذه الظاهرة.
فالعمليات الإرهابية التي حدثت في أميركا عام 2001 هي التي أعطت الذرائع والتبريرات لإدارة بوش الابن من أجل البدء في تنفيذ أجندتها الدولية، التي كان الشرق الأوسط يحتلّ مرتبة الأولوية فيها لاعتباراتٍ نفطية وجغرافيّة وإسرائيلية.
إنّ الجماعات التي تمارس العنف المسلّح الإرهابي على المدنيين والأبرياء بأسماء إسلامية لم تظهر أصلاً لولا تجربة «المجاهدين العرب الأفغان» التي أشرفت على وجودها ودعمها وكالة المخابرات الأميركية، ولم تكن نشأتها مرتبطة بظروف محلّية داخلية كالفقر الاجتماعي أو غياب الديمقراطية السياسية، ولا بحالة الاحتلال الإسرائيلي أيضاً. فـ«الجهاد الإسلامي» ضدّ نظام كابول الشيوعي كان يحدث بينما تجتاح إسرائيل أوّل عاصمة عربية (بيروت) وتقتل الألوف من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين!
إنّ ما تفعله «داعش» وأخواتها من جماعات التطرّف في الشرق والغرب، لهي ممارسات تخدم مشاريع أجندة الإدارة الأميركية، كما تدعم الطروحات الإسرائيلية منذ مطلع التسعينات عن الخطر الإسلامي القادم على الغرب. ولو أنّ الفعاليات العربية والإسلامية أجرت جرد حساب منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 عمّن هو الخاسر والرابح، لوجدنا أنّ الخاسر الأول هم العرب والمسلمون، وأنّ إسرائيل هي الرابح الأوّل من التداعيات كلّها وعلى كلّ المستويات، بما في ذلك مساواة المقاومة لاحتلالها بالإرهاب المنبوذ الآن.
«مسجد ضرار» قام من جديد، وكذلك عصر الجاهلية!
Leave a Reply