صبحي غندور
تشهد المنطقة العربية صراعاتٍ عُنفـية، ولو بنِسَبٍ مختلفة، لكنّها صراعات ارتبطت بشعار «إسقاط النظام»، كما تشهد بلدان المنطقة «حوادث» إرهابية و«أحاديث» طائفـية تخدم مشروع إسقاط الأوطان نفسها، لا الأنظمة وحدها. فهو «زمنٌ إسرائيلي» الآن على مستوى أولويّة الصراعات فـي المنطقة، إذ جرى تهميش الصراع العربي-الصهيوني، وتنشيط الصراعات الأخرى فـي عموم «الشرق الأوسط»، بحيث ضاعت معايير «الصديق» و«العدوّ» وطنياً وإقليمياً ودولياً!.
قبل خمس سنوات، تردّد فـي «ميدان التحرير» بالقاهرة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ثمّ أصبح هذا الشعار عنواناً لانتفاضاتٍ شعبية عربية فـي أكثر من مكان. لكن لم يكن واضحاً فـي كلّ هذه الانتفاضات «كيف سيكون إسقاط النظام» ثمّ ما هو «البديل الذي يريده الشعب»، وأيضاً، ما هو الخطّ الفاصل بين «إسقاط النظام» و«عدم سقوط الوطن». فهذه الانتفاضات بدأت بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكنها اتجّهت فـي مسارٍ معظمه نحو تفتيت الأوطان وتدويلها.
حتّى الآن، وحدها التجربة التونسية استطاعت إلى حدٍّ ما أن «تسقط النظام» بطريقةٍ سلمية ودون تداعياتٍ خطيرة على أمن الوطن ووحدته، وعلى وحدة الشعب فـيه. فتجارب الانتفاضات العربية الأخرى سادها ويسودها الكثير من أساليب العنف أو غموض المصير الوطني. لكن رغم أهمّية «التجربة التونسية»، فإنّ تأثيراتها الإيجابية بقيت فـي حدود مكانها، بينما ما يحدث الآن فـي البلدان العربية الأخرى هو الذي سيقرّر مصير الأمّة كلّها معاً.
ولقد شهدنا فـي الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل فـي عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة هو أصلاً بالمجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فـيها، وليس فقط بحكّامها أو بما هو قائم من مشاريع ومؤامرات أجنبية.
فأين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم، والتي تقوم على الوطنية والعروبة والإيمان الديني؟. فالرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. و«العروبة» تعني التكامل ورفض الانقسام. و«الوطنية» هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين العرب كلّهم من ذلك كلّه؟.
إنّ الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن فـي أكثر من بلدٍ عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل كلّها بعدُ بالعرب إلى قاع المنحدر، فما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. وإذا كانت الحكومات هي المسؤولة أولاً عن حال شعوبها وأوطانها، فإنّ المعارضات هي المسؤولة أخيراً عن مصير هذه الشعوب والأوطان.
إنّ حركات المعارضة السليمة والرشيدة تحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة، وإلى أساليب سليمة لا تتناقض مع شرف الغايات .. فهل هذه العناصر كلّها تتوفّر فـي الحركات السياسية العربية المعارضة اليوم؟.
وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي فـي كلّ بلد؟ وهل يمكن القبول بديمقراطية تمرّ فـي تدخّل عسكري أجنبي وفـي تجزئة الكيانات الوطنية وإخضاعها للسيطرة الأجنبية؟.
ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود الذي سعت إليه المعارضات العربية من حيث مسألة الموقف من إسرائيل، وأيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنةً فـي الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد حدّة العنف المسلّح فـي عدّة دولٍ عربية وتحت شعاراتٍ إسلامية؟! وهل هي بصدفةٍ سياسية أن يتزامن ذلك كلّه مع ارتفاع التعبئة الطائفـية والمذهبية والإثنية فـي كلّ البلاد العربية!! وبحضور مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح فـي الفلك الإسرائيلي؟!.
هذه تساؤلاتٌ مهمّة وتستدعي وقفةً مع النّفس العربية عموماً، والمعارضات منها خصوصاً، للتساؤل عمَّ حدث ويحدث فـي المنطقة العربية من أعمال عنف مسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية من جهة، أو من أجل المطالبة بالديمقراطية من جهة أخرى!.
فالواقع العربي المرير الآن هو مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمعارضين معاً، ومِن المهم جداً إدراك مسؤولية المعارضات العربية عن مستوى الانحدار الذي عليه بعض الأوطان، حيث تحوَّل مطلب تغيير الحكومات إلى مقدّمة لتهديم مجتمعات وكيانات وطنية.
إنّ المعارضات العربية السليمة هي التي تقوم على مبدأ نبذ العنف فـي العمل السياسي وفـي تغيير الحكومات، وعلى اتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، وعلى التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث هدّمت عدّة قوى عربية معارضة خلال صراعها مع السلطات، عناصر تماسك المجتمع ومقوّمات الوحدة الوطنية.
وجيّد أن يُدرِك الآن الكثيرون من العرب ما كنّا نحذّر منه منذ بداية الانتفاضات الشعبية من مخاطر غموض طبيعة الثورات وعدم وضوح برامجها ومن يقودها، ومن التبعات الخطيرة لأسلوب العنف المسلّح ولعسكرة الحراك الشعبي السلمي، وأيضاً من عبثية المراهنة على التدخّل العسكري الخارجي، ونتائجه على وحدة الشعوب والأوطان.
نعم هناك ضرورةٌ قصوى للإصلاح والتغيير فـي عموم المنطقة العربية، ولوقف حال الاستبداد والفساد السائد فـيها، لكن السؤال كان، وما يزال، هو كيف، وما ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب هو هدم الحاضر دون معرفة بديله فـي المستقبل، أو كسب الآليات الديمقراطية فـي الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل فـي المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية. فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش الابن بعد غزوها للعراق من ترويجٍ لمقولة «ديمقراطية فـي الشرق الأوسط»، تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهويّة العربية وتوزيع الأوطان إلى كانتونات فدرالية؟ ألم يكن ذلك واضحاً فـي نتائج حكم بول بريمر للعراق، وما أفرزه الاحتلال الأميركي للعراق من واقع سياسي تسوده الانقسامات الطائفـية والإثنية بل والجغرافـية للوطن العراقي؟! ألم يحدث ما هو أخطر من ذلك فـي السودان من تقسيم لشعبه وأرضه؟! ومن ثمّ صراعات دموية حادّة فـي جنوب السودان نفسه ممّا أكّد أنّ المشكلة لم تكن فـي وحدة السودان، بل فـي صراعات القبائل والتنافس على الثروات والسلطة، وفـي دور القوى الخارجية التي شجّعت على الانقسام والتقسيم.
إنّ ما يُبنى على خطأ سيؤدّي إلى نتائج خاطئة. هكذا هو الآن حال الأوضاع العربية كلّها. هو حال معظم الحكومات كما هو أمر معظم المعارضات. فحينما يتمّ بناء دول على أسس خاطئة، فإنّ ذلك هو دعوة للتمرّد ولمطلب التغيير والإصلاح. لكن فـي المقابل، حينما تكون حركات التغيير الإصلاحية هي نفسها مبنيّة على أفكار أو أساليب خاطئة (أو الحالتين معاً)، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى مزيدٍ من تراكم الأخطاء فـي المجتمع، وإلى مخاطر جمّة على الوجود الوطني كلّه.
ولماذا تشهد سوريا هذا الحال السيء جداً، وما فـيه من دمٍ ودمارٍ ومخاطر على وحدة الشعب والوطن والأرض، رغم وجود «نموذج» إسقاط النظام فـي ليبيا بفعل القوة العسكرية، وكذلك التدخّل العسكري الأجنبي فـيها؟! أليس ذلك «النموذج» بدلالةٍ كبرى على مخاطر «عسكرة» الحراك الشعبي وعلى خطيئة ارتباط «الثائرين» المسلّحين بقوى خارجية لها أجنداتها الخاصة، والتي لديها أيضاً خصومات وصراعات مع قوى خارجية أخرى؟!. فأوضاع ليبيا الآن هي محصّلة التدخل العسكري الأجنبي الثاني فـي المنطقة، فـي مطلع هذا القرن (بعد العراق)، من أجل تغيير نظام بالقوة العسكرية تحت شعار تحقيق «الديمقراطية». وهذه هي نتيجة «عسكرة» الحراك الشعبي وثمن الارتباط بجهاتٍ خارجية. فإلى أين ستصل الأمور فـي سوريا ومنطقة مشرق الأمّة ومغربها بعدما برزت جماعات «داعش» و«القاعدة» كقوة أساسية فـي الصراعات السائدة الآن؟!.
هناك حتماً أبعادٌ خارجية مهمّة للصراعات المسلّحة الدائرة فـي عدّة بلدان عربية، وهي صراعات إقليمية-دولية على المنطقة، لكنّ «الاحتكام للشعب» هو الحلّ المطلوب لما يحدث من نزيف دم فـي الجسم العربي، تتحمّل مسؤوليته الآن بشكلٍ مشترَك قوى الداخل والخارج، وأطراف الحكم والمعارضة معاً. فلا حلَّ للأزمات الدموية العربية المشتعلة من خلال الوسائل العسكرية بواسطة أي جهة داخلية أو خارجية. الحلّ هو فـي وضع تسويات سياسية تفرض نفسها على كلّ الأطراف، ولا تقبل بأيّ شروطٍ من طرفٍ على الطرف الآخر. وليكن الشعب فعلاً هو المرجعية مستقبلاً لتقرير مصير وطنه وحكمه، من خلال مراحل انتقالية قصيرة، متلازمة مع المواجهة الأمنية المطلوبة ضدّ كل الجماعات الإرهابية المجمع الآن على خطرها.
Leave a Reply