تزداد لدى معظم العرب حالات القنوط والإحباط ممّا يحدث على الأرض العربية وفي بعض الأوطان من قتلٍ وصراعاتٍ وانقسامات. وهي حالةٌ معاكسة تماماً لما ساد مطلع العام الماضي في المنطقة، حينما نجحت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر بإحداث تغييراتٍ سياسية هامة وبتأكيد حيوية الشارع الشعبي وطلائعه الشبابية.
صحيحٌ أنّ الفترة الزمنية هي قصيرة جداً للحكم على نتائج ثورتيْ تونس ومصر، وصحيحٌ أنّ التغيير فيهما ما زال يمرّ بمرحلةٍ انتقالية لم تنضج ثمارها بعد، لكن ما حدث في البلدان العربية الأخرى هو بلا شك السبب الأهم لما نشهده من قنوطٍ عربي ومخاوف متزايدة من احتمالات المستقبل.
وقد شهدنا في الأشهر الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل في عموم المنطقة العربية وللهواجس التي تشغل الآن بال كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربي الأكبر. فالحديث يكثر عن مسؤولية حكومات أو عن مؤامرات خارجية أو عن الأسباب الموضوعية لضعف وتشرذم قوى التغيير، بينما المشكلة هي أصلاً في الإنسان العربي نفسه، إن كانْ حاكماً أو محكوماً، في موقع المسؤولية أو في موقع المعارضة. فالقيادة السليمة، حتّى لدُولٍ أو جماعات تحمل أهدافاً غير صالحة وغير مشروعة، تنجح في تحقيق هذه الأهداف رغم ما قد يعترضها من صعوباتٍ وعقبات. وربّما المثال الحي على ذلك، والمستمرّ أمام العرب لأكثر من مائة عام، هو ما نتج عن وجود “المنظمة الصهيونية العالمية” من تحوّلات خطيرة في المنطقة والعالم، كان العنصر الأساس في إحداثها هو وجود مؤسسة-تنظيم جيد وقيادات مخلصة لهذه المؤسسة وأهدافها.
وقد نجد في الحالة العربية قياداتٍ شريفة ومخلصة لأوطان أو جماعات، لكن المشكلة تكون في طبيعة المؤسسات التي تقودها، أو يحصل العكس أحياناً حيث سوء القيادات، أو انحراف بعضٍ جيّدٍ منها، يؤدّي إلى ضعف وانحراف المؤسسات وإلى تفكّكها. فمصر عبد الناصر كانت مثالاً على النموذج الأول، ومصر السادات-مبارك كانت مثالاً للنموذج الآخر. كذلك كانت النماذج في مسيرة “منظمة التحرير الفلسطينية” وحركات وطنية عربية عديدة في مشرق الأمّة ومغربها.
وحكاية “المنظمة الصهيونية العالمية”.. وكيفيّة نشأتها.. والدعوة إلى الاستفادة عربياً من تجاربها وأساليبها..، أصبحت قصةً معروفة جداً وسط الشارع العربي. لكن المهمّ في هذه الحكاية المكرَّرة دائماً على مسامعنا، أنّها ليست مجرّد حكاية بل هي سيرة من فرض علينا -نحن العرب- وعلى العالم أجمع، أن نقبل الآن بكلِّ ما كان مستحيلاً في السابق. و”المستحيل” هنا تحقّق على مراحل مختلفة وليس دفعةً واحدة.
ففي 29 آب (أغسطس) من العام 1897 انعقد المؤتمر الصهيونى الأول (برئاسة ثيودور هيرتسل) في مدينة بال بسويسرا، وضمّ مجموعةً من كفاءات يهودية منتشرة في العالم. حينها دعا هيرتسل المشاركين إلى وضع خططٍ استراتيجية ومرحلية تؤدّي إلى وجود دولة إسرائيل بعد 50 عاماً! وقد تحقّق ذلك فعلاً بعد 50 عاماً أي في العام 1947.
ثمّ كان النصف الثاني من القرن العشرين مسخَّراً من أجل تكريس الاعتراف العالمي والعربي (والفلسطيني تحديداً) بهذا الكيان ووجوده على أرض فلسطين!!
في الواقع، نحن العرب المعنيّون الأُول، ماضيا وحاضراً ومستقبلاً، بكل ما تخطّط له وتفعله المنظمة الصهيونية العالمية، حتى لو سيطر علينا السأم والملل من تكرار هذا الكلام.
نحن العرب لا نحتاج إلى إدراك مخاطر ما فعلته المنظمة الصهيونية، حتى نتحرّك وننهض ونصحّح أوضاعنا السيّئة في أكثر من مجال لا علاقة له أصلاً بالوجود الصهيوني.. لكن نحن العرب نحتاج إلى الأخذ بالأسلوب العلمي في عملية النهوض والتصحيح، تماماً كما أخذت به المنظمة الصهيونية، ولم تخترعه، يوم تأسّست وخطّطت ثم نفّذت.
وعناصر هذا الأسلوب العلمي متوفّرة في أي مجتمع أو شعب، وهي تقوم من جهة على الجمع بين قيادة مخلصة ومؤسّسات جيّدة وقنوات شعبية متعدّدة، ومن جهةٍ أخرى على الجمع أيضاً بين نظرية فكرية (أهداف) وبين خططٍ استراتيجية لمدًى طويل تخدم الأهداف العامّة، وبين خطط عملية مرحلية متنوعة من أجل تنفيذ الاستراتجيات.. فأين نحن العرب من ذلك؟ وأين هي النظرية الفكرية التي تلتقي حولها الكفاءات العربية، والتي على أساس هذه النظرية تبني الاستراتيجيات وتحقّقها؟ بل أمام تعذّر وجود ذلك على المستوى الرسمي العربي (بحكم تعدّد الحكومات وخلافاتها)، أين هذا الأمر على المستوى المدني العربي، وفي الحدّ الأدنى، أين هو وسط الكفاءات العربية المهاجرة والمنتشرة في العالم كلّه؟!
الملفت للانتباه، أنّ تاريخ نشأة “المنظمة الصهيونية” وظروف تأسيسها، كان متزامناً مع وجود وظروف الكفاءات العربية والإسلامية التي كانت مضطرّة آنذاك للعيش خارج أوطانها، وتطمح وتحلم بنهضة عربية وإسلامية جديدة (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في فرنسا، والرابطة القلمية في أميركا الشمالية.. الخ).
لكن الفرق بين الطرفين أنّ صاحب دعوة الحق لم تنفعه فقط أحقيّة دعوته (أصحاب الدعوة للنهضة العربية)، بينما الطرف الآخر (رغم بطلان دعوته وعدم أحقّيتها في اغتصاب وطن شعبٍ آخر) كان أكثر تنظيماً وأفضل تخطيطاً لمراحل التغيير المطلوب على الأرض، إضافةً طبعاً إلى توفّر ظروف دعم ومساندة ضخمة من قوى عالمية كبيرة لأسبابٍ كثيرة.
هذا عن مسؤولية الإنسان العربي، أينما كان، فماذا عن مسؤولية الإنسان العربي الذي يستنجد بالخارج لحلِّ مشكلات عربية داخلية؟ إذ هل هو “ربيعٌ عربيٌّ” فعلاً ما نشهده حتّى الآن، أم انتقالٌ من زمن الاستبداد والفساد إلى زمن التبعية والحروب الأهلية؟! كلاهما زمن انحطاطٍ وتخلّف واستنساخ لماضٍ قريبٍ وبعيد عاشته البلاد العربية منذ انتهاء حقبة “الخلفاء الراشدين”، فبعدها غاب الرشد عن الحاكم والمحكوم، إلا في فتراتٍ عابرة لم تصمد طويلاً أمام جشع جماعات الفساد في الداخل وقوى التآمر من الخارج. ومنذ ذلك “الزمن الراشدي” لا تتغيّر طبيعة الحكم إلا بفعل القوّة العسكرية المسنودة أحياناً بدعمٍ خارجي. ولا فرق هنا بين عربيٍّ وأعجمي، فهكذا أيضاً وصل الجيش الانكشاري العثماني إلى سلطة “الخلافة”، وحكَم العرب لأربعة قرون انتهت بثورة الشريف حسين “العربية” المدعومة من الغرب!. وهاهو “الغرب” وتركيا وإيران يعملون الآن جميعاً على العودة القوية لأرجاء الأمّة العربية التي ما زال ينبض في وسطها قلبٌ إسرائيليٌّ مصطنَع!.
نعم تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. نعم أنظمة الاستبداد والفساد مسؤولة عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام “الثوة العربية الكبرى”، حيث لم تقم “الدولة العربية الواحدة” التي وعدت بريطانيا بدعمها، بل قامت في المشرق “دولة إسرائيل” التي وعد بها الوزير البريطاني بلفور، فحنث عهده مع العرب ونفّذ وعده مع المنظمة الصهيونية. وبدلاً من “الدولة العربية الموحّدة” جرى توزيع البلاد العربية وتقسيمها كمناطق نفوذٍ وانتداب لدول أوروبا الكبرى.
فما الذي تغيّر الآن حتى أصبحت الثقة واجبة بالدول الغربية، ومرفوضٌ التشكيك بوعودها؟ هل وافقت مثلاً دول حلف الناتو على قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين بالأمم المتحدة؟ وهل تحقّقت الوعود المتكرّرة من رؤساء أميركيين بدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة؟ وهل جرى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قراراتٍ تحاسب إسرائيل على مجازرها وتدين الممارسات العدوانية الإسرائيلية المتواصلة في الأراضي المحتلة؟ وهل جرى تهديد الناتو لإسرائيل بالفصل السابع وبحقّ استخدام القوة العسكرية ضدّها، بناءً على طلب “المجلس الوطني الانتقالي الفلسطيني” الذي يعمل الآن من خلال “منظمة التحرير” والسلطة الفلسطينية؟! وهل قرّرت الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية قطع العلاقات مع إسرائيل ومعاقبتها، في الحدِّ الأدنى، اقتصادياً ومالياً نتيجة مواصلة احتلالها منذ العام 1967 لأراضٍ عربية؟!
وهل قرّرت دول حلف “الناتو” الأخذ بالنموذجين الأميركي والأوروبي لتطبيقهما على البلاد العربية التي “تتحرّر” الآن من أنظمة الاستبداد والفساد؟! ألم تقم التجربة التاريخية الأميركية على رباعية: التحرّر من “التاج البريطاني”، والبناء الدستوري الديمقراطي، والتكامل بين الولايات، ومحاربة انفصال الجنوب الأميركي؟ ثمّ أليست هي أيضاً السيرة التاريخية الأوروبية المعاصرة التي بعد أن قاومت الاحتلال النازي (بالتضامن مع المعسكر الشيوعي) أقامت بعد تحرّرها تكاملاً بين دولها، رغم ما بينها من تباينٍ في الثقافات والأعراق واللغات؟ أليست الدول العربية أكثر انسجاماً فيما بينها من حال دول “الاتحاد الأوروبي”! فلماذا “الحل الناتوي” في أمّتنا هو التقسيم وتجزأة المجزّأ، بينما ترفض فرنسا مثلاً حقوق “الباسك” بالانفصال، وترفض بريطانيا حقوق إيرلندا بالاستقلال، وتخوض الولايات المتحدة حرباً أهلية في فترة إبراهام لنكولن لمنع انفصال الولايات الجنوبية؟!
فلماذا لا تستخدم حكومات الناتو “نفوذها” الكبير الآن لدفع تونس ومصر وليبيا إلى إعلان “اتحاد الجمهوريات الديمقراطية العربية”، باعتبار أنّ دول الناتو داعمة للمتغيّرات التي حدثت في هذه البلدان الثلاث، وبين هذه البلدان تكاملٌ في الأمور كلّها، فضلاً عن حاجتها لبعضها البعض أمنياً واقتصادياً؟. أليس ذلك أفضل من تشجيع ظواهر الفتن والصراعات التي تحدث الآن في عموم المنطقة؟!.
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد حطّمت حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة، لكن ما يجرى أيضاً في عدّة بلدان عربية هو محاولات كسر وتحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت أنظمة وحكومات، إذ لم تعد تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ منها أو عن غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرّمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودةٌ في كلّ المجتمعات العربية، سواءٌ أكانت منتفضةً الآن أم مستقرّةً إلى حين.
إنَّ الضعف العربي المتراكم منذ مطلع القرن العشرين الماضي هو بناء تدريجي كانت أسسه انعدام التوافق بعد انتهاء حقبة الحكم العثماني على مفهوم “الأمّة العربية”، وبالتالي تجزئة المستعمر الأوروبي للمنطقة العربية وقيام أوطان غاب فيها الولاء الوطني الواحد وساد في معظمها أوضاع طائفيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة العربيّة بين الأوطان مع الانقسامات الداخليّة في كلّ وطن.
وأصبح أبناء كلّ بلدٍ عربي يتساءلون، حين يقع بلدهم في أزمة: “أين العرب”، لكنّهم لا يتساءلون قبل الأزمة أو بعدها: “لِمَ لا يكون هناك اتحادٌ عربي أو في الحدّ الأدنى تكاملٌ عربي”؟!.
كان الإنسان العربي، المتنقّل في أرجاء الجزيرة العربية، يدرك قبل انتشار العرب والعروبة في بقاع المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، سبل ترحاله في غياهب الصحراء دون اعتمادٍ على بوصلة ترشده. فقد كان يكفيه رصد حركة النجوم والقمر وما حوله على الأرض ليعرف طريقه وليصل إلى هدفه.
الإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسان تائه، فلا هو يعرف إلى أين يسير مستقبله، ولا حتّى مصير وطنه وأرضه ومجتمعه. هو شعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، فالحاضر عندها مذموم والغد فيها مجهول. لا الوطن هو الوطن المنشود ولا الغربة هي الوطن البديل.
هناك حاجةٌ قصوى الآن لوقفةٍ مع النفس العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجة إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة، ويقوم على الديمقراطيّة ونبذ العنف واعتماد مرجعيّة الناس ومصالحها في إقرار النصوص والدساتير والقوانين… وهناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين من يعملون من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد ومن يعمل من أجل كانتونات تحقّق مصالح فئوية مؤقتة وتخدم مشاريع إقليمية ودولية.
هناك حاجة لبناء إنسان عربي جديد يتبع “بوصلة عربية مشتركة”، كأساس لإنقاذ الأمة كلها من حال الضياع!.
sobhi@alhewar.com
Leave a Reply