اذا كنا عاجزين وغير مدركين الى هذا الحد، وغير واعيين، لدور الثقافة العربية في المهجر، واهمية هذا في توعية واثراء فكر ابناء الجالية والعمل على تهذيبهم، وتثقيفهم وتلقينهم أصول القيم والمبادىء والمثل من سجلاتنا العريقة. فهذه مصيبة.
نحن ولله الحمد نمتلك من الارث الحضاري في بلداننا العربية وحدها زهاء ثلثي حضارة الكون ظاهرةً للعيان، ولكن كعادتنا نتغابى في تقسيم هذا الارث ونختلف عنده في متاهات ضيقة: مَن الاكثر، من الاقدم..، ونتظاهر بالعمى. اذا اعتبرنا ان هذه حمى قديمة لم يشف منها العرب نظراً لاوجاعهم وامراضهم النفسية وغفلتهم الدائمة، الا من صحواتٍ مؤقتة عند المآسي الكبيرة التي ورثناها من حكامنا الذين لا يجب ان نستثني منهم أحداً وان تظاهروا باليقظة والوطنية التي لا تنطلي على احد.
نحن هنا في المهجر نعول على فئة المثقفين الحقيقيين، الذين لا يغضون البصر كغيرهم، ويتظاهرون بالعمى عن وجود جالية ناشئة، واجيال يجب تبصيرها وتلقينها ارثها الحضاري،
والعمل على تربيتهم وتهذيبهم وسقيهم من هذا المعين باعتباره رافدا من ارض الاجداد يذكرهم بقيمهم، فهم وان كانوا اميركيين، الا انهم في حقيقة الامر يظلون سفراء لبلدانهم الاصلية، او على الاقل لأسرهم. وبهذا نكون قد صدرنا الوجه المشرق لامتنا، وعملنا على نسف صورتنا النمطية في الغرب، وهذا ما يدعم قضاينا مستقبلاً. ذلك اذا اعتبرنا اننا جيل ميؤوس منه، الا من محاولة ارساء حجر الاساس لهذه المهمة.
السائحون يختارون بلداننا العربية، وينفقون اموالهم لرؤية ارثنا الحضاري على الرغم من انهم لا يناصرون قضايانا.
نعود ونقول هذا دور الاعلاميين ولا اقول المبدعين، فسوف نأتي على ذكرهم لاحقاً. هؤلاء الذين ذكرنا ربما هم افضل حالاً من غيرهم. يجب ان يحدث تداول لشؤون المعرفة فيما بينهم، بنوع من الحب والوعي، ولن يتأتى هذا الا بالعمل الجماعي من خلال اللقاءات الفكرية والندوات على اختلاف انواعها، واختلافاتها، وذلك من اجل الارتقاء وترسيخ قيم المحبة والعمل الجماعي في كل ارجاء الجالية العربية، لتحقيق الهدف الاسمى، و”العمل على تغيير المشهد الثقافي العربي برمته”. بغض النظر عن العرق والدين وكذلك غطرسة البعض وتصدير النظريات المتعالية التي لا تفيد. فيا حبذا بتلك الفسيفساء ان وُضعت في لوحة انيقة ويا بئس ذاك التغريد خارج السرب.
هذا يؤسس لوضع جديد يجعلنا افضل حالاً مما سبق فالجاليات او “الجالية العربية” لا يستهان بها الان، ويجب ان ننتبه الى ذلك حتى لا يكون تكرارا لمأساة الجامعة العربية وحال العرب في بلداننا.
سر بلاء المشهد الثقافي العربي، ان الذين جاؤوا من بلدانهم لاسباب مختلفة وقد وطأوا هذه الارض “ارض الاحلام والعجائب والمفاجآت” عجز البعض منهم عن تقديم صورته الحقيقية، فكذب على نفسه واراد من الاخرين ان يصدقوه، أوهم نفسه والاخرين انه افضل حالاً من اقرانه الذين جاؤوا يزاحمونه المجد والشهرة التي هو أحق بهما، فكان الشاعر والاديب والناقد والفنان، العارف لشؤون اللغة وعلم الكلام جامع لكل علماء العرب من جابر بن حيان والتوحيدي… وصولا لـ”ابن زيدون” منتهيا بقلة الادب. لم يدرك ان العمل الابداعي لا يمكن ان يبدأ بكذبة كي ينتهي بمؤامرة. الثقافة ليست عاهرة تتسكع فوق الاسفلت تبحث عن ضالتها في مضاجعة غير شرعية، وليس الفكر مومساً ليظل يراودها ذئبٌ لا يأكل الا جيفاً.
هذا في حقيقة الامر هو سر بلاء المشهد الثقافي العربي وسر الازمة الحقيقية. صدقوني اذا قلت اني لم أر ولم أسمع ان أحدا يحب أحدا بشكل معلن اذا كان الكلام بينياً، على الرغم من ان الجميع يظهر الحماس والامتنان، فلماذا هذا النفاق، بل لماذا هذه الكراهية وهذا هو سر الفرقة والتشرذم. الغريب في الامر ان هؤلاء الذين اقتحموا المشهد الثقافي العربي تربطهم قواسم مشتركة، فلهم اصدارات بأهم الصحف العربية بل والعالمية، لهم دواوين شعرية، روائيين ونقادا، نالو اوسمة وجوائز عديدة في بلدانهم، وسلّموا على الرئيس.
اذن ما هو الحل كي تبتسم هذه الصورة الحلم؟ نخلص من هذا القول الى تقديم النصح لمن نعرفهم ومعاينتهم وعدم مجاملتهم، او القائهم خارج الساحة خاصة الذين لا يهادنون والمنشغلون بأنفسهم دون سواهم، يجب ان لا يكون هنا مساومة على العمل الابداعي تحت اي ظرفٍ من الظروف ولا يجب ان نتصرف على هوانا وبمفردنا وعلى المجتهدين في الشأن الثقافي ان يعملوا عل تطوير انفسهم.
من يقود اذن العمل الابداعي؟ هنا جاء دور المبدعين الحقيقيين ان يأخذوا بأيديهم ويعلموهم وفي الوقت ذاته ان يكونوا خصوما شرفاء ان اختصموا وان لا يلغوا الاخر وان يأخذوا بناصية العمل الابداعي بالمشاركة الحقيقية ومد يد العون وهذه مهمتهم، فالعمل الابداعي ليس وظيفة، وانما مهمة انسانية واخلاقية بل ووطنية، يتم تزكية هؤلاء او ترشيحهم من قبل المشتغلين في هذا الحقل، منتسبين الى مؤسسات اعلامية كانوا او منتديات فكرية مختلفة او غير منتسبين، نحن لم ننس فضل المبدعين الاوائل ولن ننسى اسماء خلدها التاريخ مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومطران وغيرهم من الذين أسسوا وأرسوا قواعد المجد، ولا اقول ونحن فشلنا.
وبالمناسبة لا يفوتني في هذا المقام ان انوه بالامسية الشعرية التي اقامتها رابطة القلم العربية الاميركية مؤخراً والتي كانت بمثابة مبادرة جادة لصناعة أرضية مشتركة لمثقفي هذه الجالية الباحثين عن بيئة صالحة للإبداع.. فكانت المشاركة المتنوعة ملفتة للنظر لاسيما الرحالة العربي “ابن الجبيلي” بقصيدته “من نحن يا شام” والدكتور نزيه مكي بقصيدته “التيتانيك”.
Leave a Reply