جعجع يهزأ من المستعجلين ويراهن على حرب إسرائيلية جديدة
بيروت –
عكست المصالحة السورية–السعودية، نفسها على لبنان، وهي ما كان ينتظرها بعض أقطاب السياسة فيه، وعلى رأسهم الرئيس نبيه بري، الذي أطلق مقولته الشهيرة (س-س)، إذ ان التوافق بين دمشق والرياض، يؤسس للاستقرار اللبناني، وهذا ما حصل بعد اتفاق الطائف، إذ حصلت سوريا على تفويض عربي سوقته الرياض وغطاء دولي دعمته اميركا، بان ترعى تطبيق الاتفاق، ووقف الحرب الأهلية، وإعادة توحيد وبناء المؤسسات الدستورية، وهذا ما فعلته، إذ جرى حل الميليشيات ونزع سلاحها، وضم جزء منها الى الجيش بعد تشكيل حكومة وفاق وطني، وسبقتها انتخابات رئاسة الجمهورية، وحصلت أول انتخابات نيابية 1992، بعد انقطاع دام عشرين عاماً.
شكل التفاهم السوري–السعودي غطاءً للسلم الأهلي في لبنان، وكانت ثمة إدارة سورية–سعودية مشتركة للوضع اللبناني من خلال ترؤس الرئيس رفيق الحريري لأول حكومة في نهاية 1992، حليفا للسعودية، وحاملاً مشروع إعادة الإعمار، وتأمين المساعدات والقروض الى لبنان، وتولت سوريا عبر جهازها الأمني والعسكري في لبنان، وإمساكها بالملف اللبناني، تثبيت الأمن وترسيخ الوحدة بين اللبنانيين ودعم استمرار المقاومة في وجه الاحتلال الاسرائيلي.
هذه الصيغة التي أمنت استقراراً للبنان، تعود من جديد بعد المصالحة التي تمت في الكويت بين الرئيس السوري بشار الأسد والعاهل السعودي الملك عبدا لله وبمبادرة من الأخير، وانفتحت صفحة جديدة في العلاقة بين البلدين، التي كان لبنان تأثر بها سلبياً عندما توترت وانقطعت وساد سوء تفاهم لا بل خلاف على موضوع أساسي وهو الصراع العربي الاسرائيلي، والمقاومة في لبنان وفلسطين والعلاقة مع إيران ونفوذها في المنطقة، الى اغتيال رفيق الحريري، ومن ثم العدوان الاسرائيلي على لبنان صيف 2006.
فالمصالحة بين الرئيس الأسد والملك عبدالله، في آذار من العام 2008، لم تلق ترجمتها الفورية على الأرض، وكانت مصالحة حذرة لاكتشاف النوايا، لانه كان هناك تيار أو جناح داخل السعودية، يرفض هذه المصالحة، وهو كان يتناغم مع فريق داخل الإدارة الأميركية وبتشجيع من النظام المصري، ان تقدم سوريا تنازلات تبدأ بتخفيف علاقتها بإيران، ووقف دعمها لـ”حزب الله” و”حماس” والتعاون في العراق.
هذا الفريق حاول ان يحقق انجازاً على الأرض، فكان قرار الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة في 5 أيار 2008، لإزالة شبكة اتصالات المقاومة، لكن تصدي المعارضة له وإسقاطه خلال ثلاث ساعات والسيطرة على بيروت ومناطق في الجبل والبقاع، قلب المعادلات ودخلت قطر على خط المصالحة اللبنانية–اللبنانية، وأنتجت اتفاق الدوحة، مما أخاف الرياض ان ينهي هذا الاتفاق اتفاق الطائف الذي رعته هي، فأعادت حساباتها وقررت ان تحاور سوريا جدياً، بعد ان حصلت الانتخابات الرئاسية، وتحقق ما إرادته المعارضة اللبنانية بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً توافقياً للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فيها ثلث ضامن للمعارضة.
منذ أيار 2008، بدأ قطار المصالحة العربية والأوروبية مع سوريا، والحوار الاميركي معها، إذ أثبتت أنها تمتلك أوراق الحل في لبنان والمنطقة، فأقرت مراكز القرار بدورها العربي والإقليمي وتأثيرها الدولي، وبدأ التعاطي معها، أنها مفتاح حل الأزمات، فسلّمت لها السعودية بنفوذها وتأثيرها في لبنان، من خلال حلفائها الأقوياء، بعد ان انتصرت المقاومة على الجيش الاسرائيلي في التصدي له أثناء العدوان صيف 2006، حيث بدأ النائب وليد جنبلاط يقرأ المتغيرات وأعلن ان المقاومة انتصرت كما ربح مشروع المعارضة أي المحور السوري-الإيراني– المقاومة، وخسر مشروعه الاميركي الذي راهن عليه.
مع إقرار جنبلاط بالخسارة، بدأ يبحث عن طريق تخرجه من ورطته، ولم يكن يسمع في حينه الى رئيس “تيار التوحيد” وئام وهاب، بان اقصر طريق لعودته الى الجذور الوطنية، وتاريخ النضال العربي، هي العودة الى العروبة وفلسطين والمقاومة والعلاقة المميزة مع سوريا، وقد رسم له خارطة طريق كان سار عليها هو كما والده المرحوم كمال جنبلاط، فتصدر حزبه التقدمي الاشتراكي الجبهة المساندة للثورة الفلسطينية، وقاد الحركة الوطنية اللبنانية، ونسج علاقات مع حركات التحرر في العالم، وفتحت له الدول الاشتراكية أبوابها ومساعداتها، وكبر حجم آل جنبلاط من عائلة سياسية، الى دور عربي ودولي، وهو الموقع الذي كان فيه الدروز تاريخياً، وهو ما كان يذكره فيه وهاب دائماً في كل إطلالته الإعلامية ولقاءاته السياسية، من ان الدروز ليسوا حجماً بل دوراً، منذ ان دافعوا عن الثغور العربية عند الساحل اللبناني في مواجهة حملة الفرنجة (الصليبيين) الى مناهضة الاستعمار الفرنسي مع ثورة سلطان باشا الأطرش، الى مقاتلة الاحتلال الاسرائيلي، وقد أعاد رئيس “تيار التوحيد” التذكير بالثوابت الوطنية والقومية لطائفة الموحدين الدروز، أثناء استقباله لجنبلاط في دارته في الجاهلية، حيث أقام له مأدبة غداء، استكمالاً للقاءات كان بدأها وهاب مع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” منذ أب الماضي، عند التحول الذي قام به الأخير، في مؤتمر حزبه، حيث اعتبر وهاب ان الفرصة قد حانت، في قطف الحصاد السياسي، وانه هو الأجدر في ان يحاور جنبلاط ويؤكد له على صوابية الخط الذي انتهجه، وهو ما عاد وأكد عليه زعيم المختارة نفسه، وهذا ما فتح له باب العودة الى قواعده القديمة ما قبل العام 2004، عندما حطم كل ما يربطه بفترة نضال حزبه، وتراث والده وتاريخ طائفته، فبات في المشروع الاميركي الذي راهن عليه بأنه قادم الى المنطقة ليغير الأنظمة ومنها النظام السوري ويقيم الديمقراطية.
لقد قرر جنبلاط ان يطوي ليس فقط أحداث 7 أيار، بل مرحلة السنوات الأربع الماضية، لان المصالحات التي تجري معه على أساس سياسي، وليس شخصي أو فردي أو عشائري، فالتحول الذي أجراه باتجاه العلاقة الايجابية مع المقاومة وتأييد وجودها ودعهما، والى اعتبار سوريا العمق القومي وبوابة لبنان الى العروبة، وملجأ الدروز في المحن، وان الجغرافيا السياسية تفرض العودة إليها، هو الذي أوصل جنبلاط الى الضاحية فالتقى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله مرتين، وذهب الى قصر بعبدا ثم الرابية يصالح ويصارح رئيس “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون، ورئيس “تيار المردة” الوزير سليمان فرنجية، ثم زار الجاهلية معترفاً لوهاب ما يمثله من حيثية شعبية تنمو منذ ثلاث سنوات، وكان قبل ذلك تصالح مع النائب طلال آرسلان، وكرّس معه المصالحة في الشويفات مع “حزب الله” و”حركة أمل” لإنهاء ذيول أحداث 11 أيار 2008، والتي قضى فيها شهداء من أبناء الشويفات والضاحية الجنوبية، وكادت ان تحول المنطقة الى خطوط تماس، ومشروع فتنة مذهبية درزية-شيعية، تم القضاء عليها.
فانعطافة جنبلاط السياسية، هي التي فتحت له منازل قادة المعارضة، وقد بات سياسياً اقرب كثيراً إليها من حلفائه السابقين في مجموعة “14 آذار”، التي خرج منها، الى الوسطية كما قال، وهو بعد لقائه الأخير ونواب كتلة “اللقاء الديمقراطي” في الرابية مع كتلة “التيار الوطني الحر” بات يقول ان الجميع ممثلون في حكومة وحدة وطنية، وانتهت الاصطفافات السابقة التي نشأت بعد اغتيال الحريري بين 8 و 14 آذار، كما لم تعد هناك أقلية وأكثرية نيابية مع اختلاط الأوراق السياسية، وتناثر التحالفات، بعد زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى سوريا، التي دعمت تشكيل حكومة وحدة وطنية التي لم تعد التباينات داخلها كبيرة، سوى تحفظ وزراء “القوات اللبنانية” والكتائب، ومعارضة الوزير بطرس حرب على بند المقاومة في البيان الوزاري، إذ ان المشهد السياسي اليوم وتحت سقف المصالحة السورية-السعودية، ولقاء الرئيس الأسد مع الرئيس الحريري، وانتظار زيارة جنبلاط الى دمشق، وتقرّب قطبين من الاكثرية النيابية من سوريا وحلفائها في لبنان، يشبه مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، إذ تشكلت الحكومات، على أساس وفاقي، وبالرغم من خروج ممثلي المسيحيين من الاشتراك في الانتخابات النيابية ومقاطعة المشاركة في الحكومات، فان الوضع اليوم مختلف مع دخول مسيحي قوى وفاعل وله تمثيل شعبي الى الحياة النيابية والحكومية هو “التيار الوطني الحر” مما يعني وجود الجميع في السلطة بما فيهم القوات والكتائب ومسيحيين من “14 اذار”، ولم تعد هناك نغمة “الإحباط المسيحي” وعدم التمثيل المسيحي، الذي لم يعد باستطاعة سمير جعجع ادعاء احتكاره ومحاولة ابتزاز قام بها بعد الطائف، لفرض نفسه ممثلاً وحيداً “للمسيحيين” فلم يتمكن، إذ شاركه سليمان فرنجية وايلي حبيقة وجورج سعادة في الحكومة، فخرج على اتفاق الطائف وانقلب عليه، وحاول تخريب الوضع الأمني فكان مصيره السجن.
فالمرحلة السياسية الحالية مختلفة كلياً، وقد يقرأها جعجع جيداً، وهو لا يستطيع ان يقف بوجه المصالحات، ولا برفض عودة العلاقات الطبيعية مع سوريا، لانه يبقى في الساحة وحيداً، حتى قد لا يناصره “حزب الكتائب”، الذي أكثر ما يقلقه هو تصاعد حضور “القوات اللبنانية” على حسابه، وهي الخارجة من رحمه عبر مؤسسها بشير الجميل شقيق الرئيس الحالي لـ”حزب الكتائب” أمين الجميل، الذي يتحين الفرص لفتح حوار مع سوريا، وهو الذي لم ينفك يرسل الرسائل باتجاهها، ولو غطى ذلك بتصعيد في مواقفه السياسية أحيانا.
فرحلة المصالحات قطعت شوطاً بعيداً، وعودة العلاقات اللبنانية–السورية تقدمت وستتطور، وان قطار الحكومة يقلع، وانتهت السنوات الخمس، التي كان فريق “14 آذار” يعبئ جمهوره على العداء لسوريا، وعلى تسعير الخلاف الداخلي مع المعارضة، التي حاول إقصائها عن السلطة، كما لم تعد تنفع مع من تبقى في المولاة السابقة، من البقاء على خطاب “ثورة الأرز”، وان يقوم البعض بدور المحرض على المقاومة، مراهناً على عدوان إسرائيلي يبشر به جعجع وآخرين، ويهزأ من المستعجلين لمصالحة “حزب الله” والمعارضة السابقة والانفتاح على سوريا، لأنهم سيندمون لان متغيرات ستحصل، ستعيد قلب الموازين الداخلية، كما يردد جعجع، الذي في تاريخه مراهنات على الخارج ولم يتعظ..
Leave a Reply