حينَ تأبّطْتُ ديوانَ «رياح النشوز» مصاحِباً إيّاه إلى الوسطِ الأدبي في بغداد مدينتي ومسقط رأسي، إبّانَ الرُبعِ الأخير من العام 1993، فوجِئتُ بظاهرةٍ مُدهِشةِ تمثَّلَتْ في انتشارِ وطغيانِ حضورِ الأدباءِ الشباب وانبثاقهم في مجملِ مفاصلِ ذلكَ الوسط، ليتصدَّروا مشهدَهُ. ولمْ أكنْ قد تابعْتُ مِنْ قبْلِ ذلك مُجرَياتِ الأحداثِ خصوصاً فيما يتعلَّقُ بإلقاءِ ظلالِها على التطوّرِ الزمني -التاريخي- وانبثاق أيٍّ مِنْ منعَطَفاتِهِ غيرِ المُتَوَقَّعة في تحديدِ مسارِ الثقافةِ العراقيّة.
كانَ الأدباءُ الشباب قدْ نهَضوا بجدارةٍ لتبَنّي صيرورة الهمِّ الثقافي العراقي نافضين عنهم غبارَ الحروبِ ومآسيها الجسيمة دون التخلُّص من آثارِها على تكوينِهِم السايكولوجيّ، فأخذوا -وبقوّة- زِمامَ المبادَرَةِ وقادوا مسيرتَهُ الظافرة. حيثُ اغتنَموا فرصةَ انبثاق «التجمُّعِ الثقافي في العراق» لِيَسْتَلِموا تحريرَ الصفحاتِ الثقافيّةِ في الجرائد اليوميّة الخمس آنِفَة الذكْرِ وفي بقيّةِ المجلاّت على محدودِيّتِها بالإضافةِ إلى تسنُّمِ رئاسةِ وإدارةِ الإتّحادِ العام للأدباءِ والكُتّابِ في العراق.
لقد وجدتُ في ذلك الوسطِ الجميل بالرغمِ من اقتِصارِ تجمُّعِهِم على ثلاث مقاهٍ لا غير كإيحاءٍ يصرخ بالفرقِ الشاسع بين غِنى أيّامِ الستّينات الأدبيّة وفقرِ أجواءِ التسعينات عبر التعمُّدِ المبرمَج مع سبقِ الإصرارِ على طمْسِ معالمِ بغداد الأدبيّة، وظفرْتُ باستعادةٍ باذخةِ الحضور وعلى غيرِ المتَوَقّع تماماً لأيّامِ الستّينات، حيثُ انتشار الأدباءِ في مقاهٍ متعَدِّدةٍ تبدأ من «البلديّة» في ساحةِ الميدان و«أم كلثوم» في شارع الرشيد ثمّ «الزهاوي»، «عارف أغا«، «حسن عجمي»، «البرلمان»، «البرازيليّة»، ومقهى «سمر» في شارع الخيّام، و«السويسريّة» و«ياسين» في الباب الشرقي، ولا تنتهي بمقهى «إبراهيم» التي اشتهرَتْ بمقهى المُعَقَّدين، لشُهرَةِ روّادِها الأدباء مِنْ جيلِ الستيناتِ ذوي النزعة التحديثيّة والفلسفيّة خاصّةً الوجوديّة منها. كما بهرَني في أيّامِ التسعيناتِ تلك، حضورُ صديقيَّ الشاعرَيْن حسين حسن، وحسين الحسيني الساطع بينَ الأدباءِ الشباب، وقد فارقْتُهُما منذُ بدايةِ السبعينات، حيثُ أخذَتْني حياةُ العائلةِ بعيداً عنْ ساحةِ الشعرِ وعالمِهِ الساحر. لأكتشِفَ بعدَها أنَّ ثلاثةً وعشرين عاماً مضتْ من الغِيابِ عن الوسطِ الأدبيّ لمْ تستطِعْ أسنانُها القارِضةُ الحادّةُ أنْ تقطعَ حبلَ الوصلِ بيني وبينهُ، أو أنْ تُجفِّف في داخلي وهواجسي منابعَه. فكانتْ عودتي أكثرَ شغَفاً وأشدّ حرارةً وأعمق تواصُلاً. لقد أحسّسْتُ يومَها بأنّي لمْ أولَدْ من جديد، بلْ أنّني عِشْتُ الحياةَ مرّتَيْن.
بعدَ توالي نشْرِ العديد من قصائد «رياح النشوز» في الصفحة الثقافية لجريدة «بابل» التي كان يشرف على تحريرِها المترجِمُ الأديب أحمد حميد، شاعَ في الوسطِ الأدبي أنَّ كاتِبَها شاعرٌ عمودِيّ، ذلكَ ما أخبَرَني بهِ صديقي لاحقاً الشاعرُ الراحلُ العزيز عبدالأمير جرص. وكانتْ بقيّةُ الصفحاتِ الثقافيّة لا تُعيرُ اهتِماماً لمثلِ هذا النهجِ الشعريّ الهامِشِيّ المتَوارَث شكلاً ومضموناً. حيثُ كانَ اهتِمامُ المشرِفين على تلكَ الصفحات منصَبّاً على نشرِ النماذجِ الشعرِيّة المصطبِغة بموجَةِ الحداثة. وقد كنتُ من منطلَقِ الإعتِداد ومعرفةِ الهوّة السحيقة، وبُعْدِ المسافة بين نصوصي وبين مصادرِ النشرِ تلك، أتَحاشى دفعَ القصائد إليْها.
كانَ الشاعر عبدالزهرة زكي مشرِفاً على الصفحةِ الثقافيّة في جريدةِ «الجمهوريّة»، والشاعر محمد تركي النصّار في جريدة «الثورة»، والشاعر منذر عبدالحر في جريدة «القادسيّة»، والقاصّ عبدالستار البيضاني في جريدة «العراق»، باستثناءِ مرَة واحدة يتيمة مع الصفحة الثقافيّة في جريدة «القادسيّة» حيثُ تعرَّضَ خلالَها الشاعر منذر عبدالحر إلى الضغطِ الشديد الصاعد إلى مراتبِ العِتاب من قِبَلِ أصدقائي الأدباء كلّ من القاصّ الكبير عبدالستار ناصر والشعراء حسين حسن، محمد تركي النصّار، نصيف الناصري، كريم شغيدل، رباح نوري، والقاص علي السوداني، وذلك بغرض نشرِ قصيدة تحملُ عنوان «تداعِيات على مائدة فطورِ الصباح»، ممّا استدعى بالشاعر منذر عبدالحر الذي أصبحَ لاحِقاً من جملةِ أقربِ أصدقائي الشخصيّين الحميمين، إلى المغامرةِ وعلى مضَض، بنشْرِها ضدَّ رغبتِهِ وتوجُّهِهِ الصائب وبالضدّ من تكثيفِ اهتِمامِهِ على إظهارِ صفحتِهِ بالمستوى الأدبيّ الرفيع.
وبعدَ مرورِ سنتَيْن على نشْرِ تلك القصيدةِ، وأثناء مراجعَتي للأرشيفِ النشريّ لقصائدي، حينَ وقعَتْ عيناي عليها واستِعادَتي لقِراءتِها، سرعان ما ضمَمْتُ وجهي بينَ يديَّ خجلاً من مضمونِها الموغل في سطحِيّتِهِ ولغتِهِ المباشِرة ومحدوديّةِ شعرِيّتِهِ وضآلة قيمتِهِ الفنّيّة، الأمر الذي استدعاني في اليومِ التالي إلى معاتبةِ صديقي منذر:
– كيفَ نشرْتَ مثل هذا النصَّ الهزيل ياصديقي منذر؟
– لقد أجبرَني أصدِقاؤنا المشترَكين بكثْرَتِهِم على نشْرِهِ.
كانتْ إجابتُهُ ممزوجةً بمرارةِ الحديث.
وإذْ أستعيدُ الذاكِرَةَ أجِدُ أنَّ ذلكَ قد حصُلَ بتحريضٍ منّي، كما أنَّ ذلك قد حصُلَ قبْلَ نشرِ قصائدِ( المتأمِّل بين العينِ والنهر) التي كتَبْتُها تحتَ فضاء وقبابِ البيئةِ الأدبيّة، ومعايشَةِ أجوائها الصاخبة بالحوارات المتبادَلَة، والغوص بتفاصيلِ إرهاصاتِ الكتابة، بعد التسلُّح بالقراءات المنهجيّة والإستفادةِ من التجاربِ العظيمة للشعراءِ الإنسانيّين الكِبار في العالم.
يتبع في العدد القادم..
Leave a Reply