وليد مرمر
«اضطريت آخد ابني عالمستشفى مبارح ورفضت المستشفى تفوتو إلا اذا أمنت 500 دولار عالباب وما كان معي إلا 100 دولار فرجعتو عالبيت.. خربوا البلد… كلن حرامية»!
– «اشتغلت 24 سنة .. والي 6 سنين بروح وبجي عالضمان وما كانوا يعطوني تعويضي.. رفيقتي عندها واسطة وعطوها بـ6 أشهر.. آخر شي بهدلوني وطردوني.. يا ويلن من الله»!
– «معي بطاقة معوقين من رندا بري بس ما حدا اعترفلي فيها.. عملت أربع عمليات لعيوني ودفعت 5000
دولار».
– «أنا معلمة بالتعليم الرسمي ونحنا منقبض كل 6 أو 7 أشهر. إذا ما في مصاري، ليش هني ما بيقبضوا كل 6 أشهر؟.. جوّعونا»!
– «ابني بمستشفى سبلين وبدي طلعو وبدن 80 ألف وما معي ياهن حتى طلعو».
– «أقساط ولادي بجبيل 3 ملايين ونصف ورحت عند سامي حواط حتى يتدخل مع المدرسة تيقسطولي ياهن بس متل قلّتها».
– «أنا بشتغل من الصبح للساعة 6 حتى اقدر ادفع قسط المعهد بالليل».
– «ابني وحيد وما عندي غيرو الو 18 سنة مسافر لأنو ما في شغل بالبلد، إنتو جوعتونا وحرقتونا.. شو بدكن بعد اكتر من هيك»؟
– «أنا بغسل كلاوي ولازم فوت على مستشفى حمود بس ما قدرت فوت لأني خفت ما اقدر ادفع فرق الوزارة»…
ليس هذا إلا غيض من فيض من صرخات المواطنين اللبنانيين، التي شاهدها العالم أجمع على شاشات التلفزة بعدما طفح الكيل… هي صرخات تعبر عن أوجاع الغالبية العظمى من الشعب اللبناني الذي تحرك جزء غير يسير منه في جميع الساحات، من صور إلى طرابلس، غير أن شدة تعقيد التركيبة السياسية في لبنان والولاءات الطائفية تبدو كفيلة حتى الآن بعدم تحوّل هذا الحراك العفوي إلى ثورة فعلية لا تثمر فقط تغييراً على مستوى السلطة، بل تغييراً للنظام الطائفي الذي ضاق اللبنانيون ذرعاً به.
عدة نقاط ساهمت في بلورة المشهد اللبناني غير المسبوق:
1– إعلامياً، مثلت «الجديد» علامة فارقة في المظاهرات حيث غطى مراسلوها جميع الساحات 24 على 24 وهي ذكرتنا بالدور المحوري الذي قامت به «سي أن أن» إبان تحرير الكويت، و«الجزيرة» في حرب تموز 2006.
2– اختلفت آراء المراقبين حول عدد المتظاهرين. رئيس هيئة قدامى ومؤسسي «القوات اللبنانية» إيلي أسود صرح أنه وفي دراسة أجراها اختصاصيون، أكدوا أن المتظاهرين في كل لبنان وصل عددهم إلى 306,400 متظاهر، أي بمعدل 7.30 بالمئة من سكان لبنان البالغ عددهم 4.2 مليون نسمة. (نسبة المشاركة في انتخابات 2018 كانت 49 بالمئة من الناخبين المسجلين أي 1.8 مليون مقترعاً، فتكون نسبة المتظاهرين إلى نسبة الناخبين واحد إلى ستة).
3– أول ثمار هذه الانتفاضة، أنه لأول مرة في تاريخ لبنان يستدعى رئيس وزراء سابق للتحقيق بعدما أحالت المدعية العامة الاستئنافية في جبل لبنان، غادة عون، ملفات الرئيس نجيب ميقاتي وإبنه ماهر وأخيه طه وبنك عودة إلى قاضي التحقيق بتهمة الثراء غير المشروع!
4– توحّدت الساحات من صور حتى طرابلس في مشهد غير مسبوق تحت راية العلم اللبناني فقط وكانت المطالبة برحيل كل الطبقة السياسية الحاكمة مع تأكيد شعار: «كلن يعني كلن»!
5– تم كسر التابويات ونودي بإسقاط رموز كبيرة في مناطق نفوذها من دون الخوف من ردة فعل مناصري هذه الرموز وهذه تعتبر سابقة في لبنان.
6– تجاهل المتظاهرون كلمات رئيس الوزراء ومن بعده رئيس الجمهورية معبرين للكاميرات بوضوح بأن، لا «الورقة الإصلاحية» التي أعلنها الحريري، ولا الكلمة «الممنتجة» لعون، ارتقيتا إلى طموح المتظاهرين رغم ما فيهما من نقاط إيجابية اعتبروها مجرد مماطلة وشراء للوقت.
7– بعد أسبوع من التظاهر، ما زالت المصارف اللبنانية مقفلة (لم تقفل أسبوعاً كاملاً حتى خلال الاجتياح الإسرائيلي) وذلك خوفاً من الإقدام الكبير والمتوقع للمودعين على سحب الدولار منها مما سيؤدي لبلبلة اقتصادية واضطراب خطير في الأسواق.
8– تم التظاهر بشكل فعال ومستمر ومركّز أمام مصرف لبنان (بدعم غير مباشر وضمني من «حزب الله») ونادى المتظاهرون بسقوط حاكمه رياض سلامة الذي يقف خلف «هندسة» الوضع المالي اللبناني الذي يحابي المصارف على حساب المواطن. فرفع المتظاهرون شعار «يسقط حكم المصرف».
ولكن عما ستتمخض هذه المظاهرات؟
أ– إن تعقيدات المشهد السياسي اللبناني والنظام الطائفي المترسخ والذي أرسى الدولة العميقة في كل مرافق ومؤسسات الدولة، إضافة إلى التدخلات الخارجية التي تريد المحافظة قدر الإمكان على «الستاتيكو» القائم تحول دون تحقيق مطلب المتظاهرين الأول بالتخلص من «النظام الطائفي». ومن الواضح أن هناك اتفاق دولي وداخلي على أنه لا بديل عن دستور الطائف وبالتالي فأن أي تغيير لن يكون بحده الأقصى إلا من داخل النظام وليس من خارجه.
ب– إن طبيعة النظام العسكري اللبناني يجعله بمنأى عن التدخل في الحدث السياسي. فكل الضباط كبارهم وصغارهم يوالون أربع أو خمس زعامات يكونون السلطة الحاكمة الحالية وذلك ما يجعل تدخل الجيش إن كان عبر انقلاب أو انشقاق أو إعلان حالة الطوارئ أمراً مستحيلاً. لذلك فلا تعويل على الجيش للقيام بأي تحرك إيجابي في دعم أهداف الحراك.
ج– رغم مناداته بمحاربة الفساد فإن «حزب الله» قرر «النأي بالنفس» عن هذا الحراك ولسان حاله في أحسن الأحوال تجاه المتظاهرين: «قلوبنا معكم…». ورغم أن معاناة جمهور الحزب هي عينها معاناة بقية اللبنانيين، إن لم تكن أقسى، فقد تم تحييده لسببن رئيسين: الأول أن حسابات «حزب الله» الداخلية والإقليمية دعته إلى الاستنتاج بأن لا مجال للفراغ وأن الحريري وحكومته في اللحظة الراهنة هو حاجة وطنية. أما الثاني فهو أن النزول إلى الشارع للتغيير سيؤدي إلى الوقوع بالمحظور والذي لن ينجر الحزب إليه مهما كان: وهو الاصطدام المباشر بالشريك الشيعي (حركة أمل).
د– إن استقالة الحكومة، لو تمت، لن تفضي إلى أي شيء ذلك أن نفس الحكومة ستصبح في مهمة تصريف أعمال قد تطول حتى نهاية العهد لتعذر تأليف حكومة أخرى في الظروف الحالية، كما أن توجه النواب الـ128 نفسهم إلى بعبدا لتسمية رئيس وزراء آخر لن تكون مشهداً مقبولاً من الشارع في المدى المنظور.
هـ– إن الانتخابات النيابية المبكرة ستلاقي اعتراضاً من لاعبين كبار في السلطة ولكن لو تم إجراؤها فسيتم حسب القانون الأخير (الذي تم إقراره بعد سنوات عجاف في المجلس) لتعذر الاتفاق على قانون يرضي الأطراف كافة وبالتالي فاحتمال إنتاج نفس السلطة هو أمر غير مستبعد أبداً مع إمكانية إحداث اختراقات محدودة، لا تقدم أو تؤخر.
و– لا مجال في لبنان لحكومة تكنوقراط أو حكومة حيادية انتقالية ذلك أن دستور الطائف يتطلب من الوزير
أن يكون سياسياً. كما أن لبنان بلد تحكمه السياسة في صغيره وكبيره وحكومة التكنوقراط هي صيغة قد تكون ناجعة في البلدان المتقدمة حيث الدولة ومرافقها أهم من الساسة وليس العكس. أما الحكومة الحيادية فهي «سالبة بانتفاء الموضوع»، فليس في لبنان حياد بل ولاءات ومراكز نفوذ متجذرة في الدولة العميقة.
لذلك كله، قررت السلطة المماطلة وكسب الوقت وأعطت القرار «الحاسم» للجيش بفتح جميع الطرقات الحيوية مع السماح للمواطنين بالتظاهر السلمي في الساحات العامة، أي من دون تعطيل حركة المرور وحرية التنقل، كما تعوّل السلطة على انحسار الحراك تدريجياً مع اشتداد البرد وهطول الأمطار لعلهم يعيدون الإمساك بزمام الأمور!
Leave a Reply