حرارة ربيع الأردن فـي ظل خريف عاصف
من ممالك الأنباط والعموريين إلى مملكة الهاشميين
لقد رأينا أنه لا بد لنا أن نقوم بتوطئة أو مدخل قصير للتعريف بتاريخ ونشأة بلاد الأردن قبل بداية الخوض في أمور الحراك والسياسة فيها، ونعتقد أن هذا التعريف السريع سيساهم في فهم كثير مما يجري من تفاعلات داخل الساحة الأردنية.
على مر التاريخ، عرفت البلاد التي تقع شرقي نهر الأردن، والتي تعرف اليوم بالمملكة الأردنية الهاشمية، العديد من الحضارات العربية والشرقية المزدهرة شأنها شأن بقية المنطقة العربية، حيث مرّ على البلاد في تاريخها القديم موجات من هجرات الشعوب والقبائل العربية والسامية التي أسست ممالك ومراكز حضارية مهمة كان من أبرزها حضارة العموريين ثم حضارة الأنباط، كما تأثرت المنطقة بالحضارات البالية والأشورية. وقد خضعت بلاد الأردن للاحتلال الروماني ثم البيزنطي قبل أن يحررها العرب المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض). وبعد أن هزم الأتراك العثمانيين المماليك في معركة مرج دابق في العام 1516 ميلادية، اجتاحت القبائل السلجوقية العثمانية أغلب المنطقة العربية ووقعت منطقة الأردن منذ ذلك التاريخ تحت الاحتلال التركي ليستمر الأمر على حاله حتى العام 1918 ميلادي. وقد عرفت البلاد العربية كلها أحلك فترات تاريخها نتيجة الاستغلال التركي للعرب وتنامي سياسة التتريك والعنصرية الطورانية التي حولت العرب الى شبه عبيد أو على الأقل مواطنين من الدرجة الثانية.
تدهور وضع الدولة العثمانية بداية من العام 1914 ميلادي بعد أن دخلت الحرب العالمية الأولى الى جانب المانيا ضد الحلفاء، فأعلن الشريف حسين وابنه فيصل بمكة المكرمة الثورة على الأتراك في 1916 ميلادي، بدعم من بريطانيا بعد وعدها له بتنصيبه ملكاً على كل المنطقة العربية بعد الإستقلال عن السلطنة العثمانية. لكن إثر اتفاقيات سايكس-بيكو التي فتتت البلاد العربية الى دويلات، أدرك فيصل ابن الشريف حسين أن العرب تعرضوا لخديعة فرنسية-بريطانية لينتهي الأمر بأحد ابناء الشريف حسين الى القبول بدولة اطلق عليها في البداية دولة شرق الاردن، وفي 26 أيار (مايو) 1946 استقلت الأردن وأُعْلن الملك عبدالله الأول ملكا عليها.
تنوع الديمغرافيا: لعبة التوازنات
يقطن في الأردن حوالي سبعة ملايين نسمة ينحدرون من أصول عرقية ودينية مختلفة، فقد سكن الأردن منذ القديم قبائل عربية من البدو الذين كانوا يعتاشون على الرعي وتربية الماشية والترحل طلبا للكلأ والماء ثم بعد تأسيس دولة الأردن الحديثة عرفت البلاد تدفق موجات بشرية جديدة غيّرت التركيبة الديمغرافية للمملكة وأعطتها طابعا من التنوع أغنى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للسكان. وعبر سنوات عديدة هاجر الى الأردن كثير من سكان فلسطين خاصة بعد عمليات التهجير إثر حروب 1948 ثم 1967، ويعتبر الفلسطينيون الأغلبية السكانية في الأردن وقد حصلوا على حق المواطنة بسبب «اتفاقية الارتباط»، التي كانت تسمى كذلك «وحدة الضفتين»، والتي جعلت الضفة الغربية الفلسطينية تحت الوصاية الأردنية قبل أن يتم فك الارتباط في العام ١٩٨٨. كما استوطنت مجموعات من الشركس والشيشان الأردن بعد أن هُجّروا نتيجة سياسة العسف التي مارسها قيصر روسيا في القرن التاسع عشر ضد سكان القوقاز، كما أصبح الأرمن الذين لجأوا الى المملكة بعد تعرض بلادهم للحروب مواطنين أردنيين، والى جانب كل هؤلاء نجد أيضاً الأكراد ثم العراقيين الذين نزحوا للأردن إثر غزو العراق (٢٠٠٣).
وبغض الطرف عن الظروف التي ساهمت في تكوين هذا التنوع السكاني وهل كان أمراً مقصوداً من السلطات الأردنية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام المهاجرين اليها، فالمحصّلة أنّ هذا التنوع ساهم في خلق توازن جديد لا يُعطي لأي مكون سكاني القدرة على التمرد أو شق عصا الطاعة مما ساهم في استقرار الدولة.
وعادة ما يخلق التعدد الاثني توجس من تفوق فئة على الأخرى لذلك كانت هناك حاجة دائمة للمؤسسة الملكية التي تحمي الجميع ويتفاني الجميع في خدمتها لأنها مصدر استمرار الدولة وتماسك نسيج المجتمع. وفي بعض المنعطفات بدا بوضوح التوظيف المقصود للمجموعات العرقية والإثنية من قبل السلطة، فالشركس الذين لا يمكنهم أن يطمحوا الى قيادة الدولة بحكم غلبة المكوّن العربي الذي لا يقبل أن تكون القيادة في غيره وقع اعتمادهم كعمود فقري في أهم مؤسسة عسكرية ألا وهي الحرس الملكي مما يدل على توجس النظام من المكوّن العربي الذي قد يتطلع الى أبعد من المسموح به. كما استفاد النظام الملكي من توطين الفلسطنيين الذي ساعدوه في لجم طموح شيوخ عشائر المملكة الذين يشكل وجودهم في المقابل حجر عثرة أمام أية مغامرة للفلسطينيين. أما باقي المكونات فليس لديها أي طموح سياسي ولكنها شكلت أحد أهم العناصر في تنمية ودينامية الإقتصاد الأردني.
يبدو مما تقدم أن لعبة التوازنات الداخلية في الأردن وضعت النظام الحاكم في مأمن من تفجر أي مشاكل عرقية أو إثنية لأن كل مكوّن من النسيج الأردني يعلم أنه سيدخل حرباً خاسرة في حال قرر مواجهة باقي المكونات التي ستتوحد ضده. ولكن في الوقت الذي تبدو فيه المملكة آمنة من امكانية قيام صراعات داخلية فإنها قد تكون أمام امتحان آخر عليها أن تواجهه وهو الصراع مع التيارات السياسية المعارضة وخاصة التيار الديني الذي يقوده «الإخوان المسلمون»، والذي جيش وحشد وخرج الجمعة الماضية في جموع غفيرة في «جمعة انقاذ الوطن» ليؤكد زعماءه أنهم سيواصلون التصعيد الى أن يتحقق مطلبهم في تحول البلاد الى الملكية البرلمانية.
ربيع لكن فـي ظل حدود: من وزارة التنفيذ الى وزارة التفويض
بدأ الحراك الأردني منذ أكثر من سنة ونصف بمسيرات كبيرة في العاصمة وبقية المحافظات وعرف الحراك تأججاً وخفوتاً حسب التوافقات الحزبية والمعالجة الأمنية التي واجه بها النظام المسيرات، وقد ركزت أغلب الشعارات على المطالب الاجتماعية ومكافحة الفساد. وقد عانى الأردن لعدة سنوات من ظاهرة الفساد الاقتصادي والاجتماعي التي لطالما اشتكت منها الأحزاب المعارضة والفئات الشعبية المتضررة، وهي ظاهرة يربطها أغلب المعارضين بالفساد السياسي. وقد بلغت المديونية العامة مستويات مخيفة حيث فاقت الـ20 مليار دولار أضيف اليها مؤخراً دين جديد بقيمة ملياري دولار. كما يُنتظر أن يستدين الأردن خمسة مليارات دولار إضافية لسد عجز موازنة 2012 وسط موجات من الغلاء المعيشي وتدهو القدرة الشرائية لدى المواطنين.
لكن رغم ذلك ظلت الطبقة السياسية المعارضة في الأردن غير قادرة على إحداث أي تغيير يمكن أن يمثل نقلة نوعية في حياة الفئات المحرومة والمقهورة. هذا الفساد وازاه جمود في النصوص القانونية والدستورية التي يعتقد مراقبون أنها السبب في تأبيد أزمة الأردن، وما زاد الطين بلة أن المؤسسة التشريعية البرلمانية، والتي من المفروض أن تكون جهازاً رقابياً على الحكومة ومؤسسة لسن القوانين لمحاربة الفساد وملاحقة الفاسدين وتطوير الحياة السياسية ودفعها الى التعددية الحقيقية، لازالت هذه المؤسسة تعاني من العجز المتفاقم نتيجة رفض النظام تغيير القوانين القائمة والتي وضعت للتضييق على الأحزاب المعارضة ولاسيما تلك المنحازة للطبقات الشعبية وتضعف فرصتها في المشاركة الفعلية بالحياة السياسية.
لازال البرلمان يرزح تحت «أغلال» البيرقراطية والعشائرية، فالقانون الانتخابي ورغم التنقيحات الشكلية لازال يهمش تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني ويعطي مزايا للعشائر الأردنية التي يمسك العديد من أبنائها بالأمن والجيش ويتمتعون بنفوذ واسع. ورغم التحويرات الجديدة مازالت القوانين الانتخابية، تعطي للدوائر المحلية 108 مقاعد ضمن اقتراع الصوت الواحد و«كوتا» نسائية بـ15 مقعداً، اما الدائرة الوطنية فـ27 مقعداً وفق القائمة المغلقة وعلى قاعدة النسبية من مجموع 150 مقعد، واذا لم تبلغ الدائرة الوطنية نسبة 75 مقعد فلن يحدث أي تحول ايجابي وتظل البرلمانات تتناسل لكن دوما تتشابه.
ورغم حل الملك عبدالله الثاني للحكومة والبرلمان، الأسبوع الماضي، وتعيينه لعبدالله النسور، وهو وزير ونائب سابق، رئيساً جديداً للحكومة الأردنية خلفاً لفايز الطراونة، والدعوة الى انتخابات مبكرة فإن المعارضة بأغلب أطيافها مصرّة على مقاطعة الانتخابات وتتطالب بتغييرات دستورية تكون بمقتضاها الأحزاب الفائزة في الانتخابات هي التي تعين رئيس الحكومة وتحاسبها ويتحول رئيس الحكومة من وزير تنفيذ لدى الملك الى وزير مفوض من البرلمان الذي يصبح الجهة المسؤولة على متابعة عمل حكومته، لم تطالب الأحزاب بإسقاط النظام ورموزه بل رفعت مطالب إصلاحية تحاول أن تغير الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية الصعبة للفئات الضعيفة حيث يؤكد حمزة منصور، أمين عام «حزب جبهة العمل الإسلامي» تمسكهم بإصلاح النظام نافياً رفع «الإخوان» لشعارات تمسّ بالملك في مسيرة الجمعة الماضي، وقال «نحن لا نزال نؤمن بإصلاح النظام تحت سقف الملكية، ولكننا نريد نظاماً ديمقراطياً، شعار إسقاط النظام ليس من شعاراتنا، ولسنا مسؤولين عن الشعارات التي يرفعها غيرنا».
يتفق كثير من المراقبين للمشهد السياسي الأردني على أن أغلب الفعاليات السياسية الأردنية من أحزاب ومنظمات وأفراد قد جعلت لنفسها ولحراكها السياسي سقفاً لم تتعداه، ورغم ما يتناثر هنا وهناك من التصريحات التي قد تبدو من الوهلة الأولى أنها قد تجاوزت الخطاب المألوف من المعارضة الى خطاب اكثر جرأة، حيث يعتقد المحللون أن تصريح الشيخ زكي بني إرشيد، وهو أحد أبرز زعامات حركة «الإخوان المسلمين» في الأردن بأن «قواعد اللعبة في المملكة قد تغيرت»، مؤشر على أن المعارضة الأردنية قد تجاوزت حالة «الخجل السياسي» الذي أبقى مطالبها على مر تاريخها أدنى السلّم مقارنة بمثيلاتها في بقية الدول العربية، لاسيما بعد «الربيع العربي» الذي رفع الشعار الراديكالي «الشعب يريد اسقاط النظام». لكن بالمقابل، بقي الشارع السياسي الأردني ممثلاً بأغلب الأحزاب الماسكة بأطراف وخيوط اللعبة السياسية أكثر حذراً من «اندفاع» بعض الشباب الأردني الذين رفع بعض أطيافهم شعار إسقاط النظام في حين اكتفت الأحزاب بمطلب الإصلاح ملتزمةً به كسقف لغاياتها وأهدافها المستقبلية، ولم تتطلع الى أبعد من ذلك. وهو أمر أثار فضول كثير من المحللين والمتابعين السياسيين لمعرفة ما يعتمل داخل الساحة الأردنية.
وجال السؤال الحائر بين أذهان الكثير من المهتمين بالشأن السياسي الأردني: ما الذي يجعل المعارضة الأردنية ترسم حدوداً لمطالبها وخطوطاً حمراء لنفسها لا تتعداها، في وقت أفلتت فيه الشعوب العربية من عقالها وبلغت مطالبها وتطلعاتها عنان السماء؟
قد يذهب البعض الى أن سبب إحجام الأحزاب الأردنية على الانخراط في موجة «الربيع العربي» هو أحد الأسباب التالية أو بعض منها أو كلها:
– اتعاظ الأحزاب الأردنية بما حصل في ليبيا وما يحصل في سوريا وبما عاشته بقية الشعوب العربية المنتفضة من حالات احباط بسبب وأد الكثير من الشعارات المرفوعة والتي لم يتحقق منها الشيء الكثير، خاصة بعد أن حاصرت قوى «الردة» العربية أماني الجماهير والتفت على ثوراتهم الوليدة لتقضي عليها في المهد وتحول ربيعهم الاخضر الى احمر قاني بعد نفثت الرجعية العربية سموم التفرقة والطائفية وبذلت الاموال لتأجيجها واستمرارها.
– سياسة ذكية وعملية محسوبة من القوى والأحزاب السياسية الأردنية الأساسية تعتمد تكتيك يدخل ضمن سياسة المراحل التي يؤمن أصحابها بأن «مسافة الالف ميل تبدأ بخطوة» فاختاروا أن يتم سحب البساط «بالهداوة» من تحت أرجل النظام وإعطاء أنفسهم فسحة من الوقت لتمكين سلطانهم عبر التغلغل في مؤسسات الدولة ووزاراتها ثم استقطاب الكوادر والسيطرة على مراكز القوة.
-إيمان الاحزاب الأردنية بدور المؤسسة الملكية كضمانة لتماسك نسيج المجتمع الأردني المتكون من أعراق واثنيات متعددة والمطالبة بإسقاط النظام الملكي تعني تفتيت الشعب وادخاله في دوامة العنف العبثية.
– خضوع المعارضة الأردنية لسياسات أطراف داخلية وخارجية، سواء كانت قوى محلية أو إقليمية أو دولية وقبولها بالأمر الواقع وبمفهوم يقول «ليس في الإمكان أبدع مما كان» وذلك يحتم الانصياع لأجندات اقليمية ودولية أقوى من قوى المعارضة ولا تسمح لها بأي تغيير من شأنه أن يمس بمنظومة الحكم في الاردن لأن المساس بها قد يقلب معادلات المنطقة برمتها ويهدد أمنها.
– ايمان قطاع واسع من المعارضة والشارع الأردني بأن الربيع، مهما حاولت الأطراف الأخرى، سيكون «ربيعاَ اخوانياً» مما قد يثير توجس قطاعات كثيرة من الشعب الأردني وتخوفهم من ضرب السلم الأهلي وصيغة التعايش بين مختلف مكونات وطوائف وأديان الأردن.
قد يكون أحد العوامل الآنفة الذكر أو بعضها أو كلها، كما ذكرنا، وراء التزام المعارضة الأردنية بسقف الإصلاح كحد أقصى لمطالبها، وهو ما يدفعها الى تجنب الغايات الثورية الراديكالية لإيمانها بعدم قدرتها على تنفيذها رتحمل تبعاتها. وقد تكون المعارضة الأردنية صادقة في تقديمها السلم الاجتماعي والاهلي على مصالحها الحزبية، وقد تكون كذلك بصدد ممارسة تكتيكات مرحلية في انتظار جولات قادمة تضع فيها النظام في مواجهة مع الشعب بإقامة الدليل على أنه يحمي الفساد ولا يضع القوانين التي تقضي عليه.
قد تتعد الاحتمالات والتقديرات بخصوص المعارضة الأردنية، لكن هناك طريق وحيد على النظام الأردني أن يسلكه من أجل استمرار السلم الأهلي وهو التأسيس للسلم الإجتماعي والإقتصادي عبر تشريعات تحاسب الفساد والفاسدين وتضع برامج عاجلة وآجلة للقضاء على الحاجة في أحزمة الفقر في المدن والبوادي وانعاش الاقتصاد عبر مشاريع حقيقية تساهم في تطوير البنية التحتية وتعطي الفرصة لتوظيف الشباب العاطل، وكذلك التأسيس للسلم السياسي عبر اطلاق الحريات السياسية والحزبية عبر دستور جديد يضمن تمثيلاً واسعاً لكل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني دون محاصصة أو حسابات جهوية أو عشائرية أو إثنية. بغير ذلك ستظل الأمور تراوح مكانها الى ان يقدر الله أمراً كان مفعولاً.
Leave a Reply