في هذا الخبيط واللبيط والمزاحمة والمنافسة للانتخابات النيابية في الوطن الصغير الجميل لبنان، أستغرب كالكثير من هذه الحمى حتى “السعار” التي تجتاح المئات من “المرشحين” للفوز بمقعد نيابي لخدمة الوطن والمواطنين. واللبناني لا يخدم وطنه إلا إذا كان نائباً أو وزيراً أو زعيماً أو رئيس جمهورية، هذه الخدمة .. ولا “بلاش”! “لهذا ولذلك” في بلد مساحته صغيرة وطموحات “زلمه” كبيرة، ما هو الحل يا ترى؟
في ذاكرتي اسم رجل عظيم، لم يكن نائباً ولا وزيراً ولا زعيماً ولكنه ظهر في زمن كان فيه جبل عامل في جنوب لبنان، يتخبط في عتمة الجهل والأمية، يحكمه أمراء الإقطاع من أهله ومن غيرهم حيث كان التعليم مقتصراً على “ابن البيك” فقط. في هذا الوقت ظهر رجل من الرجال الذين تنطبق عليهم صفة الريادة. رجال يظهرون في زمن معين، يحققون في زمن معين لم يحققه سواهم من قبل مهما تنوعت وتعددت المجالات. إنه المعلم والمربي صاحب الدور الريادي الممتاز الذي أداه في بلدة شمسطار، أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات وفي “شقراء” في النبطية وفي أنحاء عديدة من لبنان، إذ قاد جيلاً كاملاً من أبناء هذه المناطق المحرومة نحو شمس المعرفة. لم يعلم الأبناء فقط، بل علم الأهل قيمة العلم وقيمة العمل.
كان يزور القرى والبلدات النائية ويحدث الأهالي، ليس لشراء أصواتهم ولتنصيبه نائباً أو زعيماً كما يفعل زعماؤنا و”نوائبنا” هذه الأيام، بل لتعريفهم على الأفكار المبشرة بغدٍ أفضل عندما عرّف أبناءهم على كنوز المعرفة وفتح أمامهم الباب الموصود للمدارس الرسمية التي سعى الارتقاء بها ونجح في إدارة عدة مدارس تكميلية في أنحاء عديدة من لبنان وجعل منها طريقاً لمنهجه الإصلاحي وسبيلاً لتطوير أجيال عدة تخرجوا على يديه وأثروا تأثيراً مشرقاً وبارزاً في كل مكان حلوا به. وكان الأستاذ طلال سلمان ناشر جريدة “السفير” واحداً من هؤلاء التلامذة الذين أسعدهم الزمان وتتلمذ على يدي الأستاذ جعفر الأمين.
ابن بلدة شقراء الجنوبية، وصف نفسه إنه جاء إلى هذا العالم نتيجة زواج والده العالم المجتهد الشيعي السيد محسن الأمين من فتاة إفريقية سوداء، سرقها عربي مسلم من إفريقيا الشرقية وسيقت في قافلة حزينة إلى مكة المكرمة. وقد أعتقها أحد رجال الدين من آل الأمين لتخدم زوجته حفيدة رسول الله الذي أرسل رحمة للعالمين. وفي شقراء تم زواج والده السيد محسن من الزنجية الجميلة وكان هو “الغلطة المطبعية” لذلك الزواج. وبما أن الضرة مرة وحفظاً للإرث العائلي، سعت خالته، زوجة أبيه حفيدة رسول الله إلى نبذ والدته السوداء وفصله عنها حتى ماتت بغصتها المضاعفة.
لم تكن طفولته مريحة و”كان يحتمل الحيف بصمت وصبر، لم يكن باستطاعته التمرد، ولم يكن وضعه خافياً على والده العالم الديني الكبير الذي كان يسكت على مضض وهو يرى ولده اليتيم، ذا البشرة السمراء، يعمل كالخادم عند زوجته صاحبة العصمة، سليلة رسول وأولادها. ويغض الطرف -أي والده- عن زوجته وهي تسوم الطفل “البندوق” سوء العذاب وتختلق له أشغالاً شاقة عليه”. هذه البيئة القاسية التي نشأ فيها بموازاة منظومة القهر الاجتماعي والديني والسياسي والإقطاعي الذي كان يمارس على جبل عامل، كل ذلك كان حافزاً له لحب العلم والسعي لنشره في القرى والبلدات النائية التي نفي إليها بسبب أفكاره المجددة الرافضة لأسلوب الظلم والجهل والغباء تحت عباءة الدين. كل المرارات والشروخ التي عانى منها الناس إبان الحرب العالمية الأولى، وطفولته الأليمة، جعلت منه شاعراً وأديباً وإنساناً على غاية الظرف والفكاهة وحدة الذهن، عطوفاً على الناس مشاركاً لهم في مشاعرهم ومشاكلهم. حبه للتحدي وجرأته التي قد لا يتسع لها إنسان جعلت منه معلماً لا تخلده كلمة ولا يبخسه ظن به، ومنذ أن مارس التعليم في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي إلى حين استقالته عام ١٩٧١ متنقلاً بين مدينة النبطية وقراها إلى محافظة الشمال ثم البقاع وأخيراً إلى بلدته شقراء عام ١٩٥٢.
لم يكن معلماً مخلصاً فقط، بل استطاع أن يحدث حيث حل أثراً يصعب زواله. المدارس التي تنقل بينها مختاراً أو مرغماً في أكثر الأحيان لا زالت تشهد لدوره التربوي والإنساني، فقد كان له الفضل في بناء مدرسة شقراء الرسمية وتطويرها وجعلها مقصداً للطلاب من قرى المنطقة طيلة توليه إدارتها لعشرين عاماً، وكان قد عزز المدرسة بمكتبة للمطالعة ومختبر علمي متواضع وأدخل الى بلدته شقراء، التي كانت بلد السادة وعلماء الدين في ذلك الوقت، فن الرقص الفلكلوري الشعبي، وقد تميزت فرقة شقراء حتى وصلت إلى مهرجانات بعلبك وظهرت صورة إحدى راقصاتها على بطاقات تراثية وطنية. كذلك أسس السيد جعفر الأمين فرق الكشافة للبنين والبنات وأدخل الموسيقى إلى المدرسة رغم معارضة رجال الدين الأميين ورجال الإقطاع والبكوات التابعين لهم.
كنت أسمع جميع من عرفه كمربي وشاعر وساخر وعصامي وقبل ذلك كله وبعده كإنسان حر، مؤثر، متسامح مع كل من ظلمه وقسا عليه. وأنا، ربما لولاه، لم أدخل المدرسة كوني فتاة، والفتيات كان من الصعب عليهن إكمال تعليمهن ذلك الوقت.
لقد نال الأستاذ جعفر محسن الأمين محبة الناس واحترامهم وسوف تبقى سيرته كرسول معلم في تاريخ جبل عامل، إلى جانب قلة قليلة من الرجال الرواد. طبعاً لم يكن بينهم نائب ولا وزير ولا زعيم من أصحاب المعالي والسعادة والفخامة والمناصب الكاذبة المزعجة صورهم ودعاياتهم مثل الإعلانات التجارية “الفالصو”.
Leave a Reply