أصبح من شبه المستحيل أن يستعيد النظام السوري زمام المبادرة على الأرض وأن يعيد الأوضاع الى ما كانت عليه قبل اندلاع الاحتجاجات في ١٥ آذار الماضي، خاصة بعد أن تدخل الجيش بشكل مباشر وغليظ لاخماد حركة العصيان والاحتجاجات، إذ أن لذلك محاذير وتداعيات لاحقة لن يستطيع النظام حملها كما لن يستطيع الشعب بلعها.
وأيا تكن الأسباب والدوافع والمحرضات لموجة الاحتجاجات التي اندلعت في عاصمة الأمويين وبعيدا عن الغوص في مسألة المطالب التي لا يمكن لأحد أن يجادل في أحقيتها، وبعيدا عن لوم النظام للخطأ الجسيم الذي ارتكبه في معالجة أولى الاحتجاجات في درعا، فقد أصبحت سوريا اليوم غير الأمس، وما كان يعتد به عبر مقولة “سوريا الأسد” في اشارة الى حالة الاستقرار الداخلي والى عصر سوريا الذهبي الذي بلغته بحنكة سياساتها الخارجية التي أرساها الرئيس الراحل حافظ الأسد، والتي أثمرت نجاحات باهرة جعلت من بلاد الشام لاعبا اقليميا يناطح أقوى دول العالم وينافسها سياسيا، ومرسخة توازنا سياسيا وعسكريا في المنطقة جهدت الولايات المتحدة لكسره أو قلبه لصالحها دون جدوى.
انتهى هذا الاعتداد نهاية مأساوية في شوارع وأزقة سوريا التي أصابها الداء اللبناني العضال، داء الطائفية والمذهبية، وهي التي كان يحسب لها أمران: الأول داخلي من خلال إرسائها وترسيخها للوطنية السورية والقومية العربية وبعدها عن كل الحساسيات الطائفية والمذهبية، والثاني من خلال وقوفها الى جانب حركات المقاومة في كل من لبنان وفلسطين وعدم تفريطها بالحقوق العربية.
ولا يكفي أن يطل بعض المعارضين على شاشات التلفزة لينفوا هذا الأمر، فالمشهد السوري العام في طريقه للتبلور والوضوح: أقلية من أكثرية سنية شعبية تطالب بالحكم وتسعى الى جر الأكثرية الى موقعها مع مرور الوقت ومراكمة العمل. والحاكم علوي يرفض المشاركة الفعلية لأي كان، وحتى لو قبل المشاركة فلن يصدقه ولن يأمن جانبه احد، لأن المطلوب بات إسقاط النظام وسوق رموزه وعلى رأسهم بشار الأسد مخفورين الى الزنازين ثم المقصلة.
فلا النظام تسمح له بنيته بالتراجع والتنازل بشكل فوري عن أي من مواقعه السلطوية، لأن ذلك بداية سقوطه، ولا المعارضة ستقتنع بالممكن والمتاح من الاصلاحات التي أقرها النظام، ولن تكف عن محاولة اسقاطه أو بالحد الأدنى ازعاجه، معتمدة على مراكمة الاحتجاج والتظاهر حتى تصل الى مبتغاها.
والنتيجة الدخول في نفق مظلم من الفوضى والاضطراب اللذين يفقدان سوريا توازنها السياسي والعسكري، اضافة الى وزنها الاقليمي، وبالتالي الوصول الى نظرية “الفوضى البناءة” الأميركية التي حكمت لبنان منذ عام 2005 ولازالت. ومن لديه شك بأن الأيادي الخارجية كانت ولاتزال تعبث بأمن سوريا واستقرارها الاجتماعي والسياسي وتعمل على بناء شبكات اجتماعية واعلامية وسياسية معارضة للنظام تحت ستار تقديم الدعم المادي لجمعيات أهلية ومنظمات مدنية، من كان يشك بذلك فليراجع الوثائق المنشورة حديثا (يوم الجمعة) على موقعي “ويكيليكس” وجريدة “الأخبار” اللبنانية. ولعل ذلك يكون ردا على بعض النظريات لبعض الأفذاذ الذين يروجون بأن سوريا حاجة أميركية واسرائيلية للمنطقة، من غير أن يشرحوا لنا ماهية هذه الحاجة، وان كان ذلك لا يعدو كونه محاولة بائسة للتشبه بصفات الثوار المعادين للامبريالية العالمية، وهي محاكاة فاشلة للثورات العربية وللثورات التي أطلقها اليسار من تشي غيفارا الى فيدل كاسترو.
فليس هناك وضعية تناسب اسرائيل وبالتالي اميركا، أكثر من وضعية انهيار النظام في سوريا ودخول مكونات الشعب السوري في صراع اثني وعرقي وطائفي في بلد الـ”18 طائفة” المتعدد الأعراق والقوميات، وعندها، على عكس ما تعد به المعارضة، لن ينتبه أحد الى الجولان المحتل حتى يطلق رصاصة أو صاروخا على المحتل، لأن الاولوية وقتها ستكون للاقتتال الداخلي، وسيقف الاسرائيلي من على شرفة هضبة الجولان، شامتا ومتفرجا على الاحتراب السوري-السوري، بعد أن يكون قد حقق أغلى أمنياته.
في المقلب الآخر، على الجانب اللبناني الذي عرف لفترة بخاصرة سوريا الضعيفة، يعيد المشهد السوري المستجد رسم الأفق اللبناني ويعيد صياغة يومياته السياسية على وقع تطوراته، مسعّراً الانقسام اللبناني الحاد، بين شامت لا يجرؤ على البوح بمكنوناته ويعمل خلسة على ضرب النظام السوري، وبين خائف على النظام لما يشكله من ضمانة لمصالحه ومكتسباته السياسية. ومن بين كل هؤلاء وأولئك تقف المقاومة قلقة مترقبة من غير أن يحيد نظرها عن الاسرائيلي، قلقة على القضية المركزية، قضية فلسطين المحتلة، ومترقبة لسير الأحداث الداخلية في سوريا وللحراك الاسرائيلي المتخفي عربيا وأميركيا.
من المنطقي أن تكون المقاومة قد بدأت ترتيب بيتها الشرقي المحاذي للحدود السورية، ومن الأكيد أن تكون القيادة السورية قد بدأت بالتفكير بنقل جزء كبير من ترسانتها العسكرية الثقيلة والاستراتيجية الى سهل البقاع وسلسلة جبال لبنان الشرقية كي يصبح لبنان او المقاومة خاصرة سوريا القوية وخط دفاعها الأول.
فهل بدأت المقاومة في لبنان بتنفيذ الخطة البديلة “Plan B“؟
Leave a Reply