نبيل هيثم – «صدى الوطن»
من ألف باء العلوم السياسية أن السياسة الخارجية لأي دولة فـي العالم، لا يمكن أن تقوم من دون وجود مجموعة شروط سياسية واقتصادية محددة.
أبرز تلك الشروط ما يتعلق بالقوة الاقتصادية للدولة المعنية، بصرف النظر عما إذا كانت تلك القوة الاقتصادية تواجه أزمات متكررة.
الملك سلمان مع الرئيس السيسي. |
على هذا الأساس، يمكن فهم ماذا تعني السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، أو روسيا الاتحادية، أو الصين، أو الاتحاد الأوروبي… أو حتى مصر.
لكن الأمر يبدو مختلفاً مع السعودية، فمملكة آل سعود تملك إمكانات مالية هائلة، ومع ذلك، فإن بنيتها المتخلفة تجعلها غير قادرة على التحوّل من قوة مالية الى قوة اقتصادية، وهذا ما يجعلها تفتقر الى سياسة خارجية، وهو واقع يفسّر تخبطها فـي العلاقات الإقليمية والدولية.
لذلك، تبدو السعودية دوماً فـي حاجة الى حليف، سواء كان اقليمياً أو دولياً، يعوّض عقدة النقص التي تعاني منها، عن افتقارها الى تلك السياسة الخارجية، التي فشلت فـي بنائها.
انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن فهم طبيعة العلاقات السعودية-المصرية، سواء فـي عهد الحالي عبد الفتاح السيسي، أو فـي عهدي «الاخوان المسلمين» وقبله حسني مبارك.
عندما خسرت السعودية مصر
نظرت السعودية الى سقوط حسني مبارك على أنه كارثة سياسية، فالرئيس المصري، الذي خلعته «ثورة 25 يناير»، كان يمثل بالنسبة الى السعودية صمام الأمان فـي السياسة الخارجية السعودية. ولا شك أن أجراس الانذار دوّت فـي البلاط الملكي السعودي حين تمكن ثوار «ميدان التحرير» من إسقاط نظامه، فقد كان الأمر بالنسبة لآل سعود خسارة مباشرة، فـي مرحلة بالغة الدقة، كانت تشهد الانسحاب الاميركي من العراق، وبروز قوى اقليمية منافسة.
ولم يتأخر الأمر كثيراً، حتى اكتشفت السعودية خطورة الموقف، فسقوط نظام حسني مبارك، قاد عملياً الى بروز نظام آخر، هو نظام «الاخوان المسلمين» الذراع الاقليمية لقطر التي كانت تطمح بدور منافس للسعودية فـي العالمين العربي والإسلامي. عندها تأكد للسعودية أنها خسرت مصر -أو بالاصح السياسة الخارجية المصرية- لصالح إمارة آل خليفة.
ويبدو أن «ثورة 30 يونيو»، التي أسقطت نظام «الإخوان المسلمين» لصالح الدولة المصرية العميقة، الممثلة بالجيش المصري والجهاز البيروقراطي، قد مثل طوق النجاة بالنسبة الى السعودية، كونها كرّست انتهاء التحالف القطري-المصري، ومثلت فرصة لانقاذ التحالف التقليدي بين مصر والسعودية، كما كان قائماً أيام حسني مبارك وأنور السادات.
من هنا يمكن فهم لماذا ضخت السعودية ما يزيد على 20 مليار دولار فـي الاقتصاد المصري، لمنع انهياره.
ومن هنا كذلك يمكن فهم لماذا تصر السعودية على الاستمرار فـي دعم النظام المصري، برغم تحفظ السيسي على مجاراة السعودية فـي مغامراتها الاقليمية، إن فـي اليمن أو فـي سوريا، واكتفائه بدعم رمزي، مدفوع الثمن مسبقاً.
زيارة أولى
ضمن هذا السياق ذاته، تأتي الزيارة الأولى للملك سلمان الى مصر، بعد اكثر من عام على اعتلائه عرش مملكة آل سعود، غداة وفاة اخيه الملك عبدالله فـي كانون الثاني (يناير) من العام 2015.
ولا شك ان زيارة الملك سلمان للقاهرة، تأتي لتنهي فترة من التوتر بين مصر والسعودية، بدأت منذ الأيام الأولى لتوليه العرش، وذلك على خلفـية التباين الكبير فـي المواقف بين النظامين الجديدين، سواء فـي الاجراءات التي اتبعها الملك سلمان ووليي عهده، والتي جاءت عكس مسار المصلحة المصرية، وابرزها استدارة الرياض الى المحور التركي-القطري «الإخواني»، أو لجهة الاختلافات الواضحة فـي مقاربة الملف السوري، والفتور الواضح الذي ابدته القاهرة تجاه المشاركة فـي تحالف «عاصفة الحزم» ضد اليمن، و«التحالف الاسلامي» الذي كانت السعودية تريده أن يكون اداة تدخلها فـي سوريا.
هذا الامر، كان له اثر كبير على «المال السياسي» الذي قدّمته السعودية لمصر خلال السنوات الثلاث التي تلت سقوط نظام «الاخوان المسلمين». وعلى عكس الدعم غير المحدود الذي قدّمه الملك عبدالله للنظام المصري الجديد، فإن كبح الملك سلمان لهذا الدعم الاقتصادي جاء انعكاساً للخلافات السياسية القائمة.
ومنذ العام الماضي، كان التباين بين البلدين بخصوص سوريا يتخذ منحنى تصاعدياً، لا سيما بعد الاعلان المصري الصريح عن رفض أي تدخل عسكري بري من قبل السعودية فـي سوريا، والانتقادات التي ساقها الاعلام السعودي بحق النظام المصري بسبب رفضه الاقتراحات السعودية بإجراء مصالحة مع «الاخوان المسلمين» وتركيا، وقبلها رفضه السير فـي ركب السياسات السعودية المليئة بعقد التحالفات العسكرية.
علاقات مدفوعة الثمن
ومع ذلك، فإن الطرفـين يدركان، من دون أدنى شك حاجة كل منهما الى الآخر، فأمام انسداد البدائل الاقتصادية للقاهرة فـي المستقبل المنظور، وحاجتها المُلّحة للمساعدات السعودية، كان من الطبيعي أن يبدأ نظام السيسي تدوير زوايا التعامل مع الرغبات السعودية، وإن بالقدر الذي لا يورّط مصر فـي مغامرات سلمان والمحمّدين، خاصة وأن الأولويات التي كان عليها الخلاف أضحت خارج سياق الفاعلية، سواء المتعلقة باليمن التي ترغب السعودية فـي إنهاء حربها هناك عن طريق حل سياسي، أو سوريا التي أضحت أزمتها رهن توافق أعلى بين روسيا والولايات المتحدة، لتعود معادلة العلاقات بين القاهرة والرياض إلى مربعها الأساسي ما قبل 2011.
وفـي المقابل، تدرك مصر حاجة السعودية الى الظهير الاستراتيجي التاريخي منذ ثمانينيات القرن الماضي، أو حتى على مستوى حاجة الرياض إلى الإبقاء على علاقتها مدفوعة الثمن مع القاهرة، أقله فـي ما يتعلق بالصراع السعودي-الايراني.
إنهيار مصر ممنوع
ويبدو أن مصر تدرك جيداً هذه الحاجة السعودية، ومن هنا يمكن فهم الرسائل المبطنة والصريحة التي بعثت بها القاهرة الى الرياض، مثل التماهي المصري مع رغبة السعودية فـي تصنيف «حزب الله» كمنظمة إرهابية، وإيقاف بث قناة «المنار» وقنوات لبنانية أخرى عبر قمر «نايل سات»
هكذا، وبرغم مشاعر الإحباط وخيبة الأمل على مدى السنوات الماضية، بسبب اختلاف الأولويات، يبدو ان السعودية ومصر تنظران الى ان علاقاتهما الثنائية تمثل عنصراً جوهرياً فـي أمن الآخر.
ومن المؤكد ان زيارة الملك سلمان للقاهرة تأتي تأكيداً هذه الرسالة السياسية.
ولعل المصريين يدركون جيداً أن السعودية، وبرغم كل الخلافات، حريصة على عدم السماح بانهيار مصر، خصوصاً أن الأمر سيمثل كارثة بالنسبة الى مملكة آل سعود.
وكان ملفتاً خلال الأشهر الماضية، ان الدوائر الإعلامية القريبة من المخابرات المصرية روّجت لسيناريو خطير قد يهدد السعودية فـي حال لم تتخذ الأخيرة ما يكفـي من اجراءات سياسية واقتصادية لمنع انهيار الدولة المصرية. هذا السيناريو ينطلق من أزمة اللاجئين السوريين فـي اوروبا، ويجري اسقاطه افتراضياً على الواقع المصري، لينتهي برسالة تساؤلية: ماذا لو ركب عشرات ملايين المصريين امواج البحر الأحمر طلباً للجوء فـي السعودية؟!
هذه الرسالة المبطنة تبدو كافـية للسعودية الى تجديد الحرص على عدم السماح بانهيار مصر، ومن هنا يأتي الحديث عن مساعدات مالية بقيمة اربع مليارات دولار، سيحصل عليها السيسي خلال الزيارة الملكية السعودية، بالاضافة الى تأمين مشتقات نفطية للاقتصاد المصري بما يقارب العشرين مليار دولار.
ولكن السعوديين، وبكل تأكيد، لا يمكنهم فـي الوقت نفسه أن يواصلوا الدفع إلى الأبد. ومن المؤكد ان الملك سلمان سيشرح هذه المسائل للرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي سيسعى، من دون ادنى شك، الى تخفـيف التوترات الأخيرة فـي العلاقات المصرية-السعودية، وجذب المزيد من الاستثمارات الخليجية وطمأنة الرياض بشأن دعمه لموقفها من ايران.
نقاط خلاف
ومع ذلك، فإن من المستبعد ان تنتهي الزيارة الملكية السعودية بحسم القضايا الخلافـية بين الرياض والقاهرة، خصوصاً ان تلك القضايا تتعلق بخطوط حمراء مرتبطة بالامن القومي المصري على وجه التحديد.
وهذه القضايا الخلافـية تتركز، كما سلف، فـي الموقف من نظام الرئيس بشار الأسد فـي سوريا، وتشكيل القوة العربية المشتركة، وترسيم الحدود البحرية، والأزمة اليمنية، والخلافات بين مصر من ناحية وقطر وتركيا من ناحية أخرى.
وثمة قناعة راسخة لدى ديبلوماسيين مصريين أن القاهرة لن تغير موقفها تجاه سوريا، من ناحية الحفاظ على وحدة الشعب والأرض، وإيجاد حل سياسي للأزمة الحالية، وهو أمر بات صعباً فـي ظل تقدم الجيش السوري على أكثر من جبهة عسكرية، ودخول قوى دولية فـي حل الصراع (روسيا والولايات المتحدة).
كذلك، فإن تشكيل قوة عربية مشتركة لن يحدث تقدماً فـيه على المدى المنظور، نظرا لسعي السعودية الى تشكيل قوة عسكرية تكون تحت قيادتها، وهو ما ترفضه مصر تماماِ.
أما الوضع فـي اليمن فلم يعد فـي موضع خلاف، خاصة وأن هناك اتفاق على اللجوء للتفاوض والمشاورات وعدم توسيع العمليات الميدانية، بعد فشل «عاصفة الحزم» و«إعادة الامل» فـي تحقيق اهدافهما.
وأما مسألة ترسيم الحدود البحرية، فقد تشهد تواففاً بين السيسي وسلمان، خاصة وان الطرفـين يرغبان فـي الأمر.
وفـي المقابل، فإن كثيرين يستبعدون ان تشهد الزيارة الملكية حلا للنقطة الخلافـية الكبيرة المتمثلة فـي الرغبة السعودية فـي اجراء مصالحة مصرية-قطرية-تركية، بما يضمن تشكيل «تحالف سني» ضد إيران «الشيعية»، فـي ظل إصرار كل من السعودية ومصر على موقفها أو بالاصح شروطها. وربما لا يكون لدى القاهرة ما يمنع من الحوار مع الدوحة وأنقرة، ولكن السيسي لديه اشتراطات لن توافق عليها انقرة، فـي حين أن مسألة التقارب بين القاهرة والدوحة قد تشهد قوة دفع، بعد زيارة سلمان، لكنها لن تصل الى الدرجة التي كان يأمل فـيها الملك الراحل عبد الله، حين تلتزم بالتعهدات السابقة فترة حكم الملك عبد الله.
«الأمر أشبه بزوجين يتشاحنان لكنهما يقرران البقاء معا من أجل الأولاد»… هكذا وصف اعلامي سعودي العلاقات المصرية-السعودية عشية زيارة سلمان للقاهرة. وربما يكون هذا التوصيف، الأقرب الى الواقع.
Leave a Reply