تتردد منذ بداية أزمة التأليف الحكومي في لبنان عبارة “إبقاء القديم على قدمه” التي تطلقها بعض أوساط المعارضة اللبنانية خصوصا تيار الجنرال ميشال عون الذي تتهمه أوساط الأكثرية النيابية بتمثيل دور راس الحربة في عرقلة إنجاز الصيغة الحكومية التي توصل إليها الأطراف الأساسيون الممثلون للطوائف الكبرى بمساعدة عربية وإقليمية. ويمكن وصف هذا “التقدم” الذي أحرز بأنه بناء حكومي “على العظم” (وفق التعبير اللبناني) واللبنانيون والعرب يدركون ما مغزى أن يكون لهم شيء “على العظم”، من حيث الكلفة اللازمة لإنجاز البناء والتي توازي أو تفوق كلفة البناء “على العظم” ذاتها.
لكن التدقيق البسيط في أسباب أزمة التأليف الحكومي التي دخلت شهرها الخامس، يفيد أن ما يلغو به الساسة اللبنانيون لا يعدو كونه “ترجمانا” لرغبات انتظار تمليها إرادات ومصالح إقليمية ودولية، ربطا لملف هذه الأزمة بملفات أكبر وأكثر خطورة تمتد من إيران وأفغانستان مرورا بالعراق ووصولا إلى فلسطين، وحديثا ما يلوح في الأفق المصري من إرهاصات تغيير أو “لا تغيير” مع القنبلة الإعلامية التي فجرها الصحفي المخضرم محمد حسين هيكل والداعية إلى تشكيل “مجلس أمناء الدولة والدستور” بقيادة “عسكري” لفترة انتقالية فاصلة عن نهاية الولاية الخامسة للرئيس المصري العجوز حسني مبارك.
ولو أمعن المراقب في تفصيل أجزاء الصورة البانورامية لمنطقة الشرق الأوسط برمتها لوقع على “مصادفات” وتجانسات عجيبة: ففي لبنان يعصى تشكيل “حكومة وحدة وطنية” (تعبير مهذب للمحاصصة الطائفية) وفي فلسطين تمتد المفاوضات الماراتونية بين حركتي فتح وحماس في العاصمة المصرية على مدى جولات تبدو بلا نهاية ولا تظهر علامات أي انفراج قريب في مأزق العلاقة بين الحركة الإسلامية المدعومة من قوى عربية “ممانعة” ومن إيران، والحركة التاريخية للشعب الفلسطيني التي نفضت عن نفسها “ثوب الشيخوخة” في مؤتمرها الأخير في أريحا.
أما في العراق فتنشط حركة التحالفات المابعد مذهبية على أبواب الانتخابات البرلمانية مطلع السنة القادمة، ويتحول رموز الأحزاب الدينية إلى نشطاء يسعون إلى خطب ود الجماعات العلمانية والعرقية والمذهبية الداخلة في النسيج العراقي. تتم هذه الأنشطة وسط جولات من العنف الدموي تستهدف ما تم بناؤه من سلطة عراقية تحت إشراف الاحتلال، وتوحي بأن الانتخابات قد لا تحظى بفرصة الحصول أو أنها في أقل تقدير سوف تأتي مصبوغة بدماء مئات العراقيين من دون أن تضمن حدوث تحول حقيقي في العراق نحو استقرار أمني وسياسي على المدى المنظور، ويخشى أن يكون الانسحاب العسكري الأميركي بعد أقل من عامين بداية لمرحلة جديدة من العنف الأهلي الكفيل آنذاك بتحويل بلاد الرافدين إلى صومال أخرى.
وأما اليمن وحربها الضروس بين حوثيي صعدة ونظام صنعاء فلا تخرج عن حزام العنف الذي بدأ يلف المنطقة منذ سنوات، وتحديدا منذ ما بعد 11 أيلول العام 2001 واقتراب نيران هذه الحرب، وفق تقارير حديثة من الحدود السعودية اليمنية، فيما يُعد “حرب الوكالة” بين القوتين السنية والشيعية الأكبر في المنطقة، المملكة السعودية وإيران.
وسط هذه المعمعة الأمنية والسياسية في المنطقة الممتدة من البحر الأحمر حتى شواطئ المتوسط، أطلت “أزمة الخلافة” في مصر من نافذة “الاقتراح الهيكلي” الذي مس عصبا حساسا لدى الرئاسة المصرية وحزبها الوطني الحاكم، فجاءت الردود عليه من الرئيس المصري ذاته الذي تحدث بلهجة غاضبة، رافضا “هذه الترهات” ومعتبرا أن الدستور المصري لا يمس وأن الأشخاص زائلون والدستور باق. هذه ترجمة مصرية للمقولة اللبنانية بـ”إبقاء القديم على قدمه”.
والحال أن القوى القابضة على السلطة في العالم العربي يسوؤها أن يحدث أي تغيير حقيقي في هرمها، ويشتغل أقطابها في معظم الكيانات القائمة على توريث أبنائهم. ينطبق هذا الأمر على مصر مع جمال حسني مبارك، الذي ترقى سلم المسؤولية في الحزب الوطني الحاكم بسرعة قياسية وعلى ليبيا مع سيف الإسلام معمر القذافي الذي “وُلّي” مؤخرا مسؤولية هيئة شعبية توازي رئاسة الجمهورية في القاموس الليبي. والأمر ذاته ينطبق على سوريا التي ورث الرئيس بشار الأسد قيادتها عن أبيه الراحل الرئيس حافظ الأسد قبل تسع سنوات.
والواقع أن الممانعة الحقيقية التي تشهدها دول المنطقة العربية هي “ممانعة تداول السلطة” والعمل على إبقاء “القديم على قدمه” وفق المقولة اللبنانية التي تذهب مذهب تصنيف الحقائب الوزارية على طريقة الأطفال عندما ينتقون لعبهم. “فوزارتا السياحة والثقافة لا تساويان وزارتي الشؤون الاجتماعية والزراعة! وإعطاء وزارة الاقتصاد مع السياحة لا يفي بالغرض”، كما أطنب أحد نواب المعارضة مستعرضا عملية “التسوق الوزاري” التي يقوم بها حاليا تياره في المعرض الوزاري الذي يقيمه الرئيس المكلف سعد الحريري!
لكن ما قد لا يدركه اللبنانيون والمصريون والعراقيون وغيرهم هو أن لعبة السلطة في بلادهم قد استنفدت أغراضها منذ زمن، وباتت مكشوفة على كل أنواع العواصف والأزمات الإقليمية والدولية، وما يظنون أنه “تسلية” على الفضائيات قد يتحول في أي لحظة إلى جحيم. لنستمع إلى بان كي مون مثلا وهو يحذر في مناسبة صدور التقرير الحادي عشر عن تطبيق القرار 1701 الذي أنهى العمليات الحربية في تموز العام 2006 من “أن تلك الفرصة التي أتاحت اليونيفيل وجودها لا يمكن إبقاؤها إلى الأبد”.
غدا قد تتشكل الحكومة اللبنانية في إطار تسوية مؤقتة، وقد تنجح الأحزاب العراقية بتحالفاتها الجديدة في إنتاج صيغة حكم مؤقتة لعراق متفجر، وربما تجاوزت مصر مشكلة خلافة رئيسها، وقد يتربع سيف الإسلام القذافي على عرش أبيه، لكن هذه الاحتمالات لو تحققت فإنها لن تكون سوى مشاريع صراع أهلي بطريقة عنفية، وهذا ما حذر منه “تقرير المعرفة العربي 2009” بالتعاون مع “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” وفيه أن الدول العربية يمكن أن تواجه اضطرابا سياسيا واجتماعيا إذا لم تستثمر في تعليم شعوبها بسبب نقص الإرادة السياسية وحيث تنفق الحكومات على الأمن أكثر من التعليم في محاولة للسيطرة على مواطنيها بسبب الخوف من أية نتائج تترتب على أية إصلاحات تعليمية، مع التأكيد أن ثلث عدد البالغين في الوطن العربي (60 مليونا) أميون، ثلثهم من النساء ونحو تسعة ملايين طفل في سن التعليم الابتدائي لا يلتحقون بالمدرسة.
وخلاصة القول إن ما يحصل في المنطقة العربية يجافي منطق التطور ويجري بعكس التيار العالمي برمته من حيث انفراده بصيغ للحكم عفى عليها الزمن والمسألةهي مسألة وقت قبل أن تواجه المنطقة وشعوبها حقائق العصر وتضطر إلى دفع أثمان غالية من “سياداتها” وحريات شعوبها وأمنها واقتصادها بعد أن يكون العالم بأسره قد بات على ضفة، والعرب على ضفة أخرى يتلهون بصراعاتهم الأهلية والمذهبية المديدة والتي تذر بقرونها في أكثر من بقعة عربية ساخنة من العراق وصولا إلى السودان.
إذ ذاك ستتحول مقولة “إبقاء القديم على قدمه” إلى وبال على الشعوب والدول وسيحدث التغيير لكن بأبشع الوسائل العنفية الكفيلة باعادتهم قرونا إلى الوراء.
Leave a Reply