على ضوء الاشتباك الروسي–الايراني
ومعادلة نصر الله الجديدة
في حديث أجرته معه صحيفة “لا ريبوليكا” الايطالية، ونشر الثلاثاء الماضي اعتبر الرئيس السوري بشار الأسد أن الولايات المتحدة “لم يعد لديها نفوذ لأنها لا تفعل شيئا من أجل السلام، لكنها تبقى الدولة العظمى الوحيدة وإن كانت تريد لعب دور فسيكون حاسما في المراحل الأخيرة”.
ورأى الأسد أن الفشل الأميركي والأوروبي في حل المعضلات العالمية أسهم في بروز خريطة جيوسياسية تكمن في اصطفاف سوريا وتركيا وايران وروسيا معا من منطلق السياسات والمصالح.. في منطقة تجمع وسط العالم، وذهب الأسد الى أن “الحرب الباردة هي رد طبيعي على محاولة أميركا الهيمنة على العالم”.
حديث الرئيس الأسد جاء بعد اسابيع قليلة على الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الروسي ميدفيديف الى العاصمة السورية والأجواء التي سادت في اعقاب الزيارة أوحت بأن الموقف الروسي قد قطع شوطا مهما في مناهضة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، خصوصا في مسألة الملف النووي الايراني.
لكن التطورات التي اعقبت التوصل الى الاتفاق الثلاثي البرازيلي–التركي–الايراني على تبادل الوقود النووي فوق الأراضي التركية جاءت لتوحي بقوة بأن ظاهر الدبلوماسية الروسية لا يعكس جوهرها، وأن التعويل على سياسة روسية ذات طابع “سوفياتي” قديم يقع في باب التمنيات أكثر من وقوعه في خانة الواقع.
فلم يكن حبر الاتفاق حول تبادل الوقود النووي الايراني قد جف حتى برز موقف روسي على لسان ميدفيديف مشكك بالموقف الايراني، ولم يطل الامر أياما قليلة حتى أعلنت روسيا موافقتها على مشروع العقوبات الأميركي الذي تنوي ادارة الرئيس أوباما عرضه على مجلس الأمن الشهر القادم.
هذه التطورات المفاجئة في الموقف الروسي استفزت القيادة الايرانية وجعلت الرئيس محمود احمدي نجاد يطلق تحذيرا الى روسيا من التحول “عدوا تاريخيا” للامة الايرانية واستدعت ردا روسيا وصف سلوك نجاد بـ”الديموغاجية”.
يفترق حديث الرئيس الايراني عن الدور الروسي شكلا ومضمونا عن الرؤية السورية لهذا الدور، واذا كان الفارق الزمني بين حديثي الأسد ونجاد يومين، فالأرجح أن توقعات الأسد عن خريطة جيوسياسية جديدة في المنطقة لا يتلاقى مع الرؤية الايرانية، وبالتالي فإن المسألة برمتها إما أنها تتصل بتمنيات أو أنها مجرد رسالة تحفيز للادارة الأميركية على تغيير نهجها واتباع سياسة أكثر التزاما بحلول سياسية لرزمة مشاكل الشرق الأوسط تراعي حقوق الشعوب العربية والمسلمة، ولا تكون صدى للمواقف الاسرائيلية التي حرص الرئيس الأسد على التأكيد أنها العقبة الرئيسية أمام تقارب سوري–أميركي، وآخر تجلياتها رواية صواريخ “السكود” التي نفى الاسد تسليمها الى “حزب الله” مؤكدا أن الأميركيين يعلمون ذلك.
الاشتباك السياسي الذي اندلع فجأة على الجبهة الروسية الايرانية، واللهجة اللاذعة التي استخدمها الرئيس الايراني في انتقاد الرئيس الروسي مطالبا اياه بـ”تصحيح” سلوكه، والرد الروسي السريع على لسان أحد أبرز مستشاري ميدفيديف، منتقدا “الديماغوجية السياسية” لنجاد يفيد أن الرهان على دور سياسي روسي ايديولوجي ومبدئي خارج الحسابات الاقتصادية البحتة والدقيقة للمصالح الروسية هو ضرب من الوهم الذي يبدو أن الرئيس الايراني صدم وهو يحاول الخروج منه على خلفية الاصطفاف الروسي الى جانب الولايات المتحدة والغرب في مشروع فرض عقوبات اقتصادية جديدة ضد طهران.
والقيادة الايرانية التي استفاقت على الموقف الروسي “الجديد” كانت تدرك أن روسيا لم تعبر يوما عن دعم غير مشروط للبرنامج النووي الايراني واحتمال تحوله الى برنامج عسكري، مثلما لم تبد معارضة صريحة لعقوبات على ايران بسبب هذا البرنامج، رغم اقدامها على توقيع اتفاق لبناء مفاعل بوشهر وبيع طهران أسلحة متطورة عادت وماطلت لاحقا في تسليم بعضها.
وعندما يقر الرئيس السوري في حديثه الى الصحيفة الايطالية ان المصالح وحدها هي التي تحرك المواقف الروسية في منطقة الشرق الأوسط، وبعيدا عن أية اعتبارات “مبدئية” أو “أيديولوجية” على النسق السوفياتي القديم، يصبح من العبث والخطر الركون الى موقف روسي قادر على جبه المشروع الاميركي في المنطقة أو الحد من اندفاعته التي تقرر وتيرتها اعتبارات اميركية داخلية حصرا، وهو ما دفع ادارة الرئيس اوباما الى اسقاط عبارة “الحرب على الارهاب” من قاموس أمنها القومي للسنوات التالية من عمر هذه الادارة.
والحال أن براغماتية التطلعات السورية نحو دور روسي مؤثر ووازن في ايجاد حلول للصراعات التي تعصف “بمنطقة البحار الخمسة” وفق التوصيف الذي يتكرر في أحاديث الرئيس السوري، لاتزال تتيح لسوريا دورا يمكن لعبه في الترتيبات الجيوسياسية والجيوقتصادية التي تعد للمنطقة، بخلاف تطلعات القيادة الايرانية الحالية التي راهنت على دور قوى العالم الثالث الناشئة، عبر استدعاء البرازيل وتركيا في محاولة لاقحام المنطق الاميركي في التعاطي مع ملفها النووي، لتكتشف أن دولا مثل البرازيل وتركيا لا يمكنها تخطي دور “سعاة الخير” ودائما تحت المظلة الاميركية. من يستمع هنا الى تصريحات وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو عن استحالة ضعضعة العلاقة الاستراتيجية المتينة التي تربط بلاده بالولايات المتحدة، يدرك أن “الحلف العالمثالثي” الذي يجري الحديث عنه لا يعدو كونه وهما، والمراهنة على تبلوره وادائه دورا مؤثرا خارج “الرادار الاميركي” لضبط الحركة السياسية وخطواتها، هي مراهنة ساذجة في افضل الحالات.
هل يجب التذكير بأن المراهنة السورية منذ عهد الرئيس الراحل حافظ الاسد وحتى عهد نجله بشار كانت ولاتزال على دور اميركي تؤمن أنه وحده قادر على ضبط السياسات الاسرائيلية وجلب قادة الدولة العبرية الى طاولة التفاوض؟
حديث الرئيس الاسد الأخير الى الصحيفة الايطالية لم يخرج عن هذا الاطار وملخصه رسالة الى الادارة الاميركية أن نفوذكم في المنطقة هو مسألة خيار وارادة فلماذا لا تحسمون خياراتكم وتبرهنون عن ارادتكم؟
ولربما كان “استدعاء” نتنياهو الى واشنطن للقاء الرئيس اوباما ومناقشة قضيتي الامن والسلم الاقليميين تذكيرا من الادارة الاميركية الى كل اللاعبين الدوليين والاقليميين انها لاتزال اللاعب الابرز على الساحة الشرق أوسطية، أما صفارات الانذار التي انطلقت في جميع انحاء الدولة العبرية مع وصول مناورات امتحان الجبهة الداخلية ذروتها ضمن “نقطة تحول-4”، فقد لا تكون بالضرورة تمهيدا لحرب وشيكة، مع عدم استبعاد ذلك، انما تمهيد لـ”نقطة تحول” في العلاقة الاستراتيجية الاميركية–الاسرائيلية بلغت ذروتها مع الدعوة العاجلة لنتنياهو الى واشنطن، بعد دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقد ينجم عنها ابرام “أوسلو جديد” يكون هدفه الأقرب تحييد “العامل الايراني” في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وتقدم فيه حكومة نتنياهو “تنازلات فلسطينية” وهي في “ثياب الميدان” استعدادا لحرب على جبهة تبعد عنها آلاف الكيلومترات وتعتقد ايران بقوة أن الدولة العبرية مصممة على خوضها في أقرب فرصة متاحة.
تبدو المنطقة كلها مقتربة من “نقطة تحول” وتهديد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله بضرب السفن المتوجهة الى الموانئ الاسرائيلية يشي بأكثر من مجرد ممارسة “سياسية الردع” لمنع حرب اسرائيلية قادمة لاستهدافه تزامنا مع أو استباقا لضربة عسكرية ضد طهران يعتقد بأن الأميركيين كانوا يعملون على تأجيلها وليس منعها.
Leave a Reply