جنّ جنون محمد بن سلمان. الأمير المتهور يبدو كما لو أنه يقارب شؤون المُلك على طريقة بعض ألعاب الفيديو، حين يفقد اللاعب في المراحل المتقدمة، كثيراً من النقاط في المراحل الأولية، فيذهب إلى استخدام ما تبقى لديه، في مغامرة أخيرة، قد تكسبه أو تخسره كل شيء وتعيده إلى النقطة الصفر أو حتى تنهي اللعبة (غايم أوفر)!
تلك المقاربة أخطر بكثير، حتى من التعامل مع الحكم على طريقة المقامرة في لعبة «بوكر» أو «روليت»، فالمقامر يملك، في الواقع، ما يكفي من مهارات لمنازلة خصومه، حتى وإن قرر في لحظة معينة رمي كل ما يملكه على الطاولة الخضراء، وهو ما يتطلب على الأقل أن يكون بين يديه «ورق قوي».
جنون ولد طائش
في حالة محمد بن سلمان، ليس الأمر أكثر من تهور وريث طائش، لا يأبه بما تملكه يداه، أو بعبارة أكثر دقة، بما ورثه من جده وأبيه، من دون جهد!
لا يحتاج محمد بن سلمان إلى هذا الجنون، لكي يكمل انقلاباً منسقاً مع أبيه الملك لوراثة العرش في مملكة قد تتحول إلى مهلكة.
ثمة ما هو أبعد من استكمال للانقلاب، الذي بدأ بإزاحة أبناء عمه عبدالله، ومن ثم عمّه مقرن بن عبد العزيز وبعدهم ابن عمه محمد بن نايف، قبل أن تكر سبحة باقي الأمراء.
ما يجري في السعودية، يمثل اليوم واحداً من أخطر المغامرات التي تهدد المملكة الثانية لآل سعود والتي بناها الملك عبد العزيز على توزانات دقيقة، فإذا بها تواجه مصير المملكة الأولى التي تأسست عبر ذلك التحالف التاريخي بين آل سعود وخطّ محمد بن عبد الوهاب.
مرد تلك الخطورة يكمن في أنّ أي عاقل لا يمكن أن يقرر، أو حتى يفكر، بقطع شعرة معاوية، مع كل أجنحة العائلة الضخمة التي تركها الملك عبد العزيز، خصوصاً أن القرارات الانقلابية التي اتخذت في الديوان الملكي منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى العرش، كانت كفيلة بإثارة تحذيرات حتى في صفوف الموالين للعائلة السعودية بشأن التغييرات البنيوية المهددة لجذور الكيان السياسي المسمى المملكة العربية السعودية.
أي مستقبل؟
ولعل مستقبل الحكم في السعودية هو سؤال مركزي يطرح في هذه المرحلة بالذات، خصوصاً أن ما يجري اليوم، من تصفية للأمراء وأصحاب النفوذ، يأتي استكمالاً لتحول بدأ منذ وصول الملك سلمان الى العرش على أثر وفاة الملك عبدالله، التي أسدلت الستار على فصل طويل بدأ منذ التاسع عشر من تشرين الثاني العام 1953، تاريخ وفاة الملك المؤسس، انتقل خلاله العرش بشكل أفقي إلى أبناء عبد العزيز، بتسويات معقدة، حافظ عليها كل الملوك الذين توالوا على حكم السعودية، لضمان استقرار الحكم.
ولكن بتولّي الملك سلمان شؤون الحكم في 23 كانون الثاني العام 2015، تغيّر كل شيء، فقد اختفت غالبية أعضاء الجيل الأول من أبناء الملك المؤسس، بفعل الوفاة، وأصبح الملك الحالي من دون منافس في الحكم، وهو ما سينطبق على ابنه حين يتقرر نقل الملك إليه بوفاة أبيه أو إعلان عجزه عن تولي الحكم.
الخطير في ما سبق أن ما قام به سلمان يشكل انتهاكاً فاضحاً لتلك المعادلات المعقدة داخل عائلة آل سعود، ولا سيما فيما يتعلق منها بثنائية الشراكة (سعود–فيصل، فيصل–خالد، خالد–فهد، فهد–عبدالله، عبد الله–نايف…)، لصالح أحادية تتمثل في الملك سلمان، وهو ما حدث بالفعل مع استبعاد الأمير مقرن.
واستكمالاً لما سبق، أتى عزل مقرن، ليكرس بداية حكم الجيل الثاني من ذرية الملك عبد العزيز، وذلك من خلال الثنائي محمد بن نايف ولي العهد السابق، الذي تولى مجلس الشؤون السياسية والأمنية، ومحمد بن سلمان، الذي أطاحه عن ولاية العهد.
مسلسل التصفيات
لكن مسلسل التصفيات الخطيرة استمر، بخطوة حساسة، تمثلت في إعفاء محمد بن نايف من ولاية العهد، ليصبح هناك، بالتالي، احتكار كامل للحكم من قبل محمد بن سلمان الذي يتولى حالياً أمر المجلسين السياسي–الأمني والاقتصادي، وأصبحت السلطة السياسية بذلك مشغولة بصورة كاملة من قبل ولي العهد الشاب (٣٢ عاماً)، وهو تطوّر غير مسبوق في تاريخ العائلة المالكة.
وعلاوة على هذه المتغيرات، تبرز اليوم تحالفات جديدة، وغير مسبوقة، على مستوى الحكم السعودي، ولا سيما في شقها المرتبط بالعلاقة بين الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية.
ومعروف أن العامل الأساس الذي ضمن استقرار السعودية، كان ذلك التحالف التاريخي بين آل سعود وآل الشيخ، والذي بدأ في العام 1744 بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، ثم أُلحقت به القوى الاجتماعية التقليدية، أي زعماء القبائل (خصوصاً في نجد) ووجهاء المجتمع (في المجتعمات الحضرية كالمنطقة الشرقية، المنطقة الغربية، الحجاز…).
هذه العلاقة التاريخية بدأت تهتز مع محمد بن سلمان الذي أخذ يتخلى تدريجياً عن التحالفات التقليدية، لصالح «رؤيا ٢٠٣٠» وجيل من الشباب –أو من يسمون بـ«الصبية» أمثال ثامر السبهان وعادل الجبير وغيرهما– ما يطرح تساؤلات حول انسجام هذه المتغيرات مع التقاليد والموروثات الاجتماعية، واحتمال تأسيسها لصدام مؤجل بين النظام السياسي والمنظومة الاجتماعية التقليدية، سواء السياسية أو الاجتماعية.
من جهة أخرى، ثمة مشكلة جوهرية تقود إلى ذلك الجنون الذي نشهده اليوم في السعودية، وتتمثل في الشكوك الهائلة التي تحوم حول البرنامج الاقتصادي لمحمد بن سلمان، المتمثل بـ«رؤيا ٢٠٣٠»، حتى من قبل مقربين من العائلة الحاكمة، وهو ما أثار غضب ولي العهد الذي أمر بمعاقبة المختلفين معه في الرأي، سجناً وإقالة… ألخ.
ولكن ليست تلك الانتقادات هي ما يصيب محمد بن سلمان بالهستيريا وحدها، فالأرقام الاقتصادية كاشفة جداً، لدرجة تجعل الكثير من المحللين الاقتصاديين يعتقدون بأن «رؤيا» بن سلمان ليست سوى مشروع علاقات عامة، لتهيئة الأمير الصغير للحكم أمام وراثة العرش، بعدما فشل سياسياً وعسكرياً في اليمن.
وبالرغم من أن السعودية تعد أكبر مصدر للخام في العالم –مع احتياطيات تبلغ نحو 260 مليار برميل– إلا أن اقتصادها لا يزال يقف على قدم واحدة.
وبعد انخفاض أسعار النفط من أعلى مستوياتها في العام 2014، اضطرت السعودية إلى إنفاق نحو 200 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي لتغطية العجز. ورداً على ذلك، قام ولي العهد بإعلان برنامج للخصخصة وتخفيض الدعم لتحقيق التوازن، ولكن هذه التحركات هددت العقد الاجتماعي طويل الأمد بين الأسرة المالكة ورعاياها، وغالبيتهم دون سن الخامسة والثلاثين.
وما التصعيد الأخير الذي يخوضه الأمير الصغير ضد لبنان، مع احتجاز سعد الحريري ومصادرة قراره للدفع بالمواجهة مع «حزب الله» وإيران إلى نقطة الصدام المحتوم، سوى ترجمة لفشل المشروع الاقتصادي نفسه الذي كانت آخر تخرصاته مشروع «نيوم».
وإذا كان من الممكن الاستناد إلى الأشهر القليلة الماضية بوصفها دليلاً مفيداً، يمكن القول إن بشائر المستقبل ليست جيدة.
انقلاب القصر الذي قاد محمد بن سلمان إلى ولاية العهد لم يكن دموياً، ومع ذلك، فإن «لعبة العروش» لن تمر على ما يبدو بالشكل السلس الذي كان يبتغيه.
وأيّاً كان العنوان العام لما حدث، فإنّ الإجراءات التي تم اتخاذها ضد الأمراء، وقبلهم ضد الناشطين وكتاب الرأي بحجة التقرب من قطر، تكاد تشي بأن محمد بن سلمان مصاب «جنون العظمة»، كما أشارت صحيفة «الغارديان» في تقرير لها قبل مدة، ما يجعل السعودية أمام اللحظة المصيرية التي تجنح فيها نحو التفكك الذي لا يعرف أحد كيف سيبدأ وكيف سينتهي.
عشرات الأمراء والشخصيات السعودية البارزة
قيد الاعتقال بتهم الفساد
الرياض – على وقع استمرار العدوان على اليمن ومواصلة حصار قطر وافتعال أزمة سياسية مع لبنان والتلويح غير المسبوق بالمواجهة المباشرة مع إيران، اعتقلت السلطات السعودية تحت عنوان مكافحة الفساد أمراء وشخصيات بارزة في السلطة والمال والإعلام في المملكة.
وأعلنت الرياض أن عدد المعتقلين في تحقيقات الفساد وصل إلى 201 شخص، وأن عمليات الاختلاس والفساد في المملكة على مدار عقود تجاوزت مئة مليار دولار.
وقال النائب العام السعودي سعود المعجب إنه تم استدعاء 208 أشخاص لاستجوابهم فيما يتعلق بتحقيقات الفساد، وأضاف أنه أفرج عن سبعة من هؤلاء الأشخاص دون توجيه تهم لهم.
وكانت اللجنة العليا لمكافحة الفساد بالسعودية التي شكلها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان أوقفت خلال الأيام الماضية عددا من الشخصيات البارزة، بينهم عدد من الأمراء والوزراء الحاليين والسابقين والمسؤولين ورجال الأعمال.
ومن بين الموقوفين وزير الحرس الوطني المقال الأمير متعب بن عبد الله نجل الملك الراحل عبد الله، وشقيقه أمير الرياض السابق تركي بن عبد الله، والأمير الملياردير الوليد بن طلال، والأمير فهد بن عبد الله بن محمد نائب قائد القوات الجوية الأسبق.
وقال مصدر سعودي رسمي لوكالة رويترز إن الاتهامات الموجهة لعشرات الأمراء والمسؤولين ورجال الأعمال المعتقلين تشمل الرشوة والاختلاس وغسيل الأموال واستغلال النفوذ.
ثم وسعت السلطات السعودية حملة الملاحقات، وقامت باعتقالات جديدة شملت نخباً سياسية ورموزا في عالم المال والأعمال بالمملكة، بحسب ما نقلته وكالة «رويترز» عن مصادر سعودية، وامتدت الحملة لتشمل المزيد من أبناء عمومة ولي العهد محمد بن سلمان وأبنائهم وأسرهم.
وأوردت هذه المصادر أنه تم احتجاز عدد آخر من المشتبه في ارتكابهم تجاوزات. وأشارت الوكالة إلى أن من بين الذين أوقفوا في الحملة الأخيرة أشخاصا تربطهم صلات بأسرة ولي العهد السابق ووزير الدفاع الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز، الذي توفي عام 2011.
واستمر تدخل الصناديق الحكومية في البورصة السعودية لتلافي هبوط حاد لمؤشرها دون جدوى.
وقالت مصادر مصرفية سعودية إن عدد الحسابات البنكية السعودية التي تم تجميدها نتيجة حملة مكافحة الفساد بلغ أكثر من 1700، منها الحسابات البنكية لولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف وأفراد من أسرته.
وأعلنت السلطات أن المبالغ التي يتضح أنها مرتبطة بالفساد ستعاد إلى الخزينة العامة للدولة.
Leave a Reply