إن الله في عون الإنسان مادام الإنسان في عون أخيه، وإن جميع الأديان السماوية تحض الإنسان على مساعدة أخيه الإنسان في حدود إمكانياته وقدراته، كانت هذه الأفكار تدور في رأسي وأنا أترجل من سيارتي التي أصابها العطل فتوقفت عن الحركة، حيث كنت قد ركنتها أمام شريط من المحلات التجارية التي اشتريت احتياجاتي المنزلية من بعضها.
تلفت من حولي فاستنجدت بعدد من رجال كانوا يمرون من قربي لمساعدتي علّ أحدا منهم لديه خبرة في تشغيل السيارة، لكن للأسف الشديد لم يستجب أيّ منهم لندائي حتى أني عرضت عليهم أجراً مقابل المساعدة لكن دون جدوى، بل كانوا يرمقونني بنظرة استعلاء ويواصلون مسيرهم دون حتى كلمة اعتذار بعدم امتلاك الخبرة أو على الأقل بكلمة تجبر الخاطر، فبقيت متسمرة في مكاني جنب السيارة حائرة ماذا أفعل، وأنا أحدث نفسي فيما لو كان بي شيء نافر يجعلهم محجمين عن مساعدتي أم أن هاجس المروءة قد جف في عروقهم!
إزاء هذا التصرف الغريب الذي لم نألفه من قبل حيث كانت أية سيدة تتعرض لموقف محرج من هذا القبيل يتسارع الرجال إلى مساعدتها وتقديم العون لها إذ يعتبرونها أختاً يتحتم إنقاذها من مثل هذا المأزق، وهكذا تضاربت الأفكار في رأسي أثناء تلك اللحظات الحرجة، حتى وصلت بي الظنون إلى أن لباسي المحتشم ربما كان السبب في ذلك الإحجام، فلو كانت صبية ترتدي تنورة قصيرة أو بنطالاً ضيقا يبرز مفاتنها لاستنفر الرجال وهبوا لمساعدتها!
ترى هل وصل الأمر بهذا الجيل إلى مثل هذا التردي؟ ففي بلادنا الأم إذا حدث وتعطلت سيارة تقودها امرأة أو حتى رجل يندفع الجميع لإبداء المساعدة، وأذكر حادثة مرت معي قبل عشرين عاماً يوم كنت أقيم في دولة الإمارات إذ تعرضت إحدى عجلات سيارتي إلى ثقب أفرغها من الهواء، وكانت سيارتي تخلو من عجلة احتياط فركنتها على جانب الشارع بموازاة الرصيف، وكان الزحام خانقاً ومن دون أن أطلب المساعدة تنادى إليّ عدة أشخاص حيث قام رجل هندي منهم بفك العجلة وأخذها لمسافة نصف ساعة وأعاد تركيبها بعد أن أصلحها، وكانت مظاهر التفاني وملامح السرور بادية على وجهه، وكم حاولت تعويض جهوده أو على الأقل دفع كلفة التصليح لكنه أبى وقال لي بلهجة عربية (مكسرة): «لا أريد نقوداً .. الله يعطي أجر أحسن من نقود.. مع السلامة أخت مال أنا».
كم كان عظيما ذلك الرجل الغريب الذي لا يتقن العربية لكنه يتقن لغة الإنسانية وترجمة الشهامة إلى الفعل، لغة عمل الخير ومساعدة الناس، لم يكن مسلما لكنه أشعرني بأن على الرغم من اختلاف الأديان لكن المواقف الإنسانية توحدها، وإن عمل الخير لايقتصر على دين معين بل هو نتاج تربية الشخص وحسن نشأته ورواء مروءته في النفس، في حين أن الذين طلبت منهم المساعدة كانوا من أبناء جلدتي للأسف وكان طلبي هينا جداً لا يتطلب عناء، بل يتطلب الشهامة والتعاطف الإنساني بمساعدة الغير، وكان عليهم أن يفكروا بأنهم ربما يحتاجون لغيرهم في يوم من الأيام إن حدث لهم أو لأبنائهم أو لذويهم ما حدث لي، ولم أعدم من انبراء المروءة إذ توجهت لي فتاة يافعة أوصلتني بسيارتها إلى منزلي بعد أن تركت سيارتي في مكانها وعدت أجر أذيال الخيبة من أناس انعدمت فيهم حاسة المروءة وفضيلة النخوة.
حاولت أن أستذكر وأستعيد تعاليم ديننا في هذا المجال لأذكرهم بما يتوجب عليهم إزاء هذه الحالة المحرجة أو مثيلاتها من قريب أو بعيد، يقول نبينا الكريم في الحديث الشريف: «من نفّسَ عن مؤمنٍ كُربةً نفّسَ اللهُ عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يّسرَ على مُعسِرٍ يسّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبدِ مادام العبدُ في عَونِ أخيه، إنّ للهِ عِباداً يستريح إليهم في قضاءِ حوائجهم وإدخال السرور عليهم أولئك هم الآمنون من عذابِ يومِ القيامة».
كذلك أستذكر العبرة من سيدنا يوسف عليه السلام إذ كان إذا مرِضَ رجلٌ في السجن قام عليه، وإذا ضاق عليه المكان وسّع له وإذا احتاج مالاً جمع له، فقضاء حوائج الناس واصطناع المعروف باب واسع يشمل كل الأمور المعنوية والحسية والمادية فقد حث الله المؤمنين على البذل والتضحية لما في ذلك من تقوية لروابط الأخوة وتنمية المجتمع على الصلاح والخير وقد قال تعالى: «وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تَعاونوا على الإثمِ والعدوان».
ولكي تتجلى هذه التعاليم ونراها ملموسة في حياة وممارسة الواقع علينا أن نغرس في نفوس أطفالنا منذ الصغر حبّ مساعدة الغير حتى وإن لم يطلبوها منهم، ليكونوا مبادرين فتتضاعف أجورهم عند الله.
Leave a Reply