عماد مرمل – صدى الوطن
لان لبنان هو حالة خاصة وتكاد تكون فريدة، فان طبيعة ازماته هي أيضا من طينة مختلفة. يكفي ان يغيب مكوّن سياسي او طائفي عن جلسة لمجلس الوزراء او مجلس النواب حتى تنشب على الفور أزمة حكم، سرعان ما تتخذ طابعا وجوديا ومصيريا!
ربما لا يُستخدم مصطلح الميثاقية إلا في لبنان، بعدما أصبح لهذه الجمهورية العجيبة قاموسها الخاص الذي يختصر خصوصية هذا الكيان وتركيبته المرهفة. ميثاقية على الطالع والنازل، تطل برأسها كلما دق الكوز بالجرة، لتصبح مادة للتداول السياسي والاعلامي، وتسري في الشارع كالنار في الهشيم.
يكفي ان يدق هذا الزعيم او ذاك النفير وان يشكو من غبن حقيقي او افتراضي، حتى تهب طائفته للدفاع عن حقوقها، باسم الميثاقية التي تمنح الطوائف والاحزاب الاساسية في لبنان حق النقض «الفيتو»، على قاعدة منع المساس بالتوازنات الدقيقة في السلطة.
لكن المصيبة الكبرى تكمن في عدم وجود تعريف واحد لتلك «الميثاقية السحرية»، بل تتعدد تفسيراتها التي غالبا ما تُفصّل على قياس المصالح السياسية والشخصية. بالنسبة الى البعض يكفي ان يغيب مكوّن داخلي محوري ويملك صفة تمثيلية واسعة عن اي من مؤسسات الحكم حتى تخسر المؤسسة المعنية شرعيتها وتوزانها وبالتالي تفقد قدرتها على اتخاذ القرارات وتصبح غير مؤهلة لذلك.
هذه هي وجهة نظر «التيار الوطني الحر» الذي يعتبر ان مقاطعته لجلسة مجلس الوزراء الاخيرة بسبب عدم الاخذ برأيه المعترض على التمديد المتكرر للقيادات العسكرية في الجيش إنما يشكل سببا كافيا كي تمتنع الحكومة عن الانعقاد، خصوصا ان موقف «التيار» وحليفه الارمني (حزب الطاشناق) الذي تضامن معه، هو معطوف على غياب رئيس الجمهورية الماروني نتيجة استمرار الشغور الرئاسي وعلى استقالة «حزب الكتائب »من الحكومة وعدم مشاركة «القوات اللبنانية» أصلا فيها، ما يعني ان المكونات المسيحية المعروفة بتمثيلها الواسع باتت خارج مجلس الوزراء الذي اختل توازنه الميثاقي، كما يعتقد اصحاب هذه المقاربة. لكن، بالنسبة الى البعض الآخر، تبقى ميثاقية الحكومة بخير، ما دام ان هناك وزراء مسيحيين يشاركون في اجتماعاتها ويؤمنون التغطية المسيحية لها، بالمعنى الدستوري، ولو لم يكونوا منتمين سياسيا الى احزاب قوية، كالوزراء بطرس حرب وميشال فرعون وسمير مقبل وسجعان قزي ورمزي جريج ونبيل دوفريج وروني عريجي.
وتستند فلسفة هذا الطرح المدعوم من الرئيسين نبيه بري وتمام سلام الى قاعدة مفادها ان احترام مفهوم الميثاقية لا يتوقف على حضور المكونات السياسية وانما يرتبط بحضور الطوائف، وهذا ما راعته جلسة مجلس الوزراء الاخيرة التي شارك فيها العديد من الوزراء المسيحيين، ما أعطى غياب وزراء «التيار الحر» و«الطاشناق» بُعدا سياسيا وليس ميثاقيا، وفق اجتهادات خصوم الجنرال البرتقالي.
وإزاء هذا التباين الحاد في تفسير معنى الميثاقية، ابتكر المعنيون صيغة مطاطة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، لتبرير عقد جلسة مجلس الوزراء، برغم قرار العماد ميشال عون بمقاطعتها. أما الاختراع اللبناني الجديد فتمثل في اجتماع الحكومة من دون ان تتخذ قرارات أساسية، لئلا يشعر أحد بانه خرج خاسرا من هذه المواجهة، علما ان مشكلة اللبنانيين مع حكومتهم تكمن أساسا في ضعف انتاجيتها وعجزها عن معالجة الملفات المتراكمة، فإذا بالضرورات السياسية تحاول تجميل العجز ووضعه في خانة مراعاة غياب احد الاطراف عن مجلس الوزراء!
وتجدر الاشارة الى ان لبنان كان قد مرّ في اختبار آخر، أشد صعوبة، بعد حرب تموز 2006، حين استقال وزراء «حزب الله» و«حركة أمل» من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة آنذاك، والتي قيل عنها انها مبتورة وفاقدة للميثاقية، بسبب خروج المكوّن الشيعي منها، إلا ان السنيورة أصر في تلك الحقبة على ان حكومته شرعية وعملها قانوني برغم افتقارها الى اي تمثيل شيعي بعد استقالة الحركة والحزب، فاستمر في عقد اجتماعات لمجلس الوزراء واصدار قرارات ومراسيم لا تزال عالقة في مجلس النواب، كون بري يرفض الاعتراف بها.
انها بعضٌ من عوارض النظام الطائفي الهجين الذي يتحكم بلبنان ويحكمه منذ عقود، وهو نظام يحترف انتاج الهواجس والاوهام، ويفرز الازمات والحروب الموسمية، ويهدر طاقة الدولة في زواريب المحاصصة، ويدفع الى ابتكار قواعد حكم مضادة للأصول وشروط العدالة.
وكان واضحا ان انكفاء الرعاة الاقليميين لجمهورية الطائف عن الساحة اللبنانية بفعل تحولات المنطقة، لاسيما الراعي السوري، قد أدى الى حالة من انعدام الوزن في السلطة التي كان الخارج ينظم خلافاتها وتسوياتها، ويشكل مرجعية ناظمة لإيقاعها، عند كل مفترق طرق. وهذا ما يفسر ان العيوب الدستورية الفادحة والفاضحة في بنية اتفاق الطائف بدت «تحت السيطرة» خلال «الحقبة الذهبية» للوجود السوري بين عامي 1990 و2005، حيث كانت مظلة دمشق تمتد فوق لبنان الذي انكشف بعد سحب تلك المظلة، ليتبين ان الطبقة السياسية لم تغادر بعد، سن المراهقة وسننه، ولا تزال قاصرة عن إدارة شؤون الدولة من دون تدخل خارجي، في وقت يبدو ان القوى الاقليمية والدولية المؤثرة منشغلة عن لبنان بهموم المنطقة، الامر الذي أدى الى فراغ شبه شامل في الداخل، من رئاسة الجمهورية الشاغرة الى الحكومة المتعثرة مرورا بمجلس النواب المشلول.
Leave a Reply