شرف الدين: النموذج المصرفي اللبناني ولّد نظاما قادرا
على مواجهة الأزمات الداخلية ومقاومة عدوى الأزمات الخارجية
ديربورن – خاص “صدى الوطن”
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كان السيد رائد شرف الدين في زيارة لمدينة ديربورن، ضمن وفد من مؤسسات الإمام الصدر ترأسته رئيسة المؤسسة السيدة رباب الصدر شرف الدين، للمشاركة في الاحتفال الخيري السنوي الذي تنظمه مؤسسة الصدر-أميركا دعما لمسيرة المؤسسات في لبنان، عندما صدرت مراسيم تعيين نواب حاكم مصرف لبنان المركزي ومن بينهم السيد رائد شرف الدين كنائب أول للحاكم.
يوم الأحد الماضي، وصل النائب الأول لحاكم المصرف المركزي السيد رائد شرف الدين إلى مدينة ديربورن للمشاركة في الاحتفال السنوي الخيري التاسع لمؤسسة الصدر – أميركا ليس بصفته الرسمية هذه المرة بل كـ”متطوع” في مسيرة عمل مؤسسات خيرية وتربوية ومهنية ورعائية.. يؤكد السيد شرف الدين أن التزامه بها لم يخبُ بعد تعيينه في المنصب الإداري الرفيع في حاكمية المصرف المركزي.
“صدى الوطن” التقت بالسيد شرف الدين في مقر إقامته في فندق “كورت يارد ماريوت” في مدينة ديربورن حاملة اليه مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالأوضاع المالية والمصرفية والاقتصادية، وعن أوضاع مؤسسات الصدر في لبنان.
الانطباع الأول الذي يتكون من خلال الحديث إلى نائب الحاكم الذي حضر الى المقابلة متسلحاً بملف غني من الأوراق والوثائق وبحس رؤيوي نافذ للوضعين المالي والمصرفي، يجعلك تعتقد أن الرجل قد مضى على وجوده سنوات طويلة في المنصب الذي يسهم في بناء السياسات المالية للدولة اللبنانية ويشكل مع الحاكم وزملائه النواب الثلاثة الآخرين “العين” المالية لها والضوء الذي تسير على هديه عجلة الدولة بمؤسساتها كافة.
ورغم أن نائب الحاكم وفد على المنصب المالي الحساس من عالم المصارف التي خبر أجواءها في سنوات حياته المهنية التي سبقت تعيينه في المنصب المرموق إلا أنه يشعرك بأن رجال السياسة لو قاربوا مسائلهم السياسية بالطريقة التي يقارب من خلالها السيد شرف الدين وزملاؤه المسائل المالية والمصرفية التي يعنى بها لكان البلد الصغير بألف خير.
عندما أطلعنا نائب الحاكم عن طبيعة الأسئلة التي نريد طرحها عليه والمتصلة بصورة أساسية بالأوضاع المالية والاقتصادية، أبدى ارتياحه لانتقائها و”طمأننا” أنه يحمل أجوبة شافية لها مستهلاً بمداخلة مهدت لكثير من التفاصيل التي سلطت على موضوع المقابلة أضواء باهرة بأسلوب ناجع ومتمكن.
سؤالنا الأول والبديهي كان عن “سر” متانة الوضعين المالي والمصرفي اللبنانييْن في خضم الأزمة المالية العالمية التي هزت أركان النظام المالي العالمي.
وأجاب نائب الحاكم عن السؤال بطريقة منهجية استهلها بالقول: “إن العنصر الأساس في سر قوة الليرة اللبنانية هو الثقة وهي جزء لا يتجزأ من الاستقرار النقدي والمصرفي انطلاقا من مسؤولية المصرف المركزي وائتمانه على تنفيذ المطلوب منه بمقتضى القانون فيما يخص المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم. فعلى الرغم من تعرضه لضغوطات صعبة مرات عدة فقد نجح في تهدئة الوضع النقدي رغم غياب المؤسسات الدستورية وحصول الشلل في مرافق عدة من مرافق الدولة، وتعدد عمليات التفجير وما تلاها من اغتيالات ومن ثم العدوان الإسرائيلي في تموز 2006 وبعدها حرب نهر البارد وصولا إلى “أزمة الشوارع” في أيار (مايو) 2008”.
وتناول نائب الحاكم محورين في حديثه عن سياسة المصرف المركزي: المحور الأول المتمثل بالمحافظة على سلامة النقد اللبناني عبر تحقيق الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية والسيطرة على التضخم والتدابير المتخذة لتحقيق هذين الهدفين وهي:
– إبقاء صرف الليرة ضمن هوامش مناسبة بغية المحافظة على سياسة الاستقرار النقدي التي هي عامل أساسي للحفاظ على الثقة وعلى استقرار الأسعار.
– تحفيز التحويل من العملات الأجنبية الى الليرة اللبنانية لإبعاد الأسواق المحلية، عند تقليص السيولة بالدولار لديها، عن الاستثمار بديون وأوراق مالية مصدرة من جهات غير معروف مدى تورطها بالمخاطر.
– إدارة السيولة بشكل يتلاءم مع اتجاهات السوق مع المحافظة على الفوائد المناسبة بغية عدم تشجيع المضاربة.
– اعتماد قاعدة فوائد ايجابية لتؤمن مدخولا يفوق نسب التضخم المتدفقة من جهة وواقعية لجهة مجاراة تقلبات الأسواق مع اتجاه الى تقليص الفارق بين فائدة السندات اللبنانية وفائدة السندات الأميركية.
– تعزيز موجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية من خلال تدفقات مالية خارجية تعزز الثقة بالعملة الوطنية وبالاستقرار في سوق القطع.
وردا على سؤال حول أسباب ارتفاع احتياطي العملات الأجنبية في المصرف المركزي من 25 مليار دولار الى 29 مليار دولار خلال العامين 2008 و2009 أجاب نائب الحاكم بأن دأب المصرف المركزي هو استدرار العملات الأجنبية بكل الوسائل المتاحة وهذه سياسة ليست بجديدة على المصرف المركزي وحافزها الأساس هو التمتع باحتياطي عال باستمرار تحسبا لأزمات سياسية وأمنية خبرها لبنان على مدى العقود الماضية.
وأشار الى أن المصرف المركزي لديه التزام بحماية النقد الوطني من الزعزعة والضعف والمحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي عبر جهوده التي تركزت منذ العام 1993 على ارساء مجموعة كاملة من النظم المصرفية التي اثبتت فعاليتها وكفاءتها في جعل القطاع المصرفي، المؤتمن الاساسي على ادخارات اللبنانيين، أحد أهم مكامن القوة في الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال حث هذا القطاع على التجهز بالخبرات والمهارات والتقنيات العالية التي تؤهله للتمدد في الأسواق الاقليمية والدولية والانخراط بكفاءة، في العولمة المالية، وتسهل عليه مواجهة الصعاب والأزمات على اختلاف أنواعها وآخرها ارتدادت الأزمة المالية العالمية الراهنة.
وردا على سؤال عن أهم مرتكزات السياسة المصرفية العامة المعتمدة من مصرف لبنان، قال نائب الحاكم شرف الدين إنها تتمثل بتحصين رسملة المصارف ومطالبتها بتكوين نسب ملاءة عالية تعدت مؤخرا الـ 12 بالمئة، إلى جانب الاحتفاظ بمعدلات سيولة مرتفعة تفوق حاليا نسبة 30 بالمئة من أصل الميزانية المجمعة للمصارف، فضلا عن مطالبة المصارف بالربط بين القيام بنشاطات معينة ومقدار قيمة الأموال الخاصة للمصرف، وبتطبيق المعايير الدولية فيما خص الإدارة الحكيمة والشفافية والمحاسبة ومكافحة تبييض الأموال والحث على اعتماد سياسات تسليفية توفق بين الغاية التجارية من القرض وإدارة المخاطر واتباع سياسات فوائد واقعية تمنع السعي وراء مردود مرتفع يحمل المزيد من المخاطر.
وأشار نائب الحاكم الى نقطة اعتبرها هامة في الحفاظ على سلامة الأوضاع النقدية وتتمثل بسياسات مصرف لبنان القاضية بعدم السماح بإفلاس المصارف في لبنان عبر تشجيع عمليات الدمج دون احداث خسائر المودعين. وضرب شرف الدين مثلا أن 30 مصرفا قد خرجت من السوق من دون تسجيل أية خسارة أو كلفة على المودعين.
وعن تقييمه الاجمالي للأوضاع المصرفية والمالية قال شرف الدين إن العديد من المؤشرات المصرفية المسجلة مؤخرا تشير الى أن النموذج اللبناني ولد نظاما قادرا على مواجهة الأزمات الداخلية ولديه المناعة الكافية لمقاومة عدوى الأزمات الخارجية ولن يتأثر جوهريا بأية توجهات ستصدر عن مراجع دولية بشأن إرساء نظام مالي أكثر حصانة. وعدد نائب الحاكم تلك المؤشرات كالتالي:
– نمو الودائع المصرفية بنحو 23 بالمئة على اساس سنوي حيث تدفق على القطاع المصرفي اللبناني حوالي 27 مليار دولار في الأشهر الـ 12 الأخيرة، وقد تم تحويل 56 بالمئة منها الى الليرة اللبنانية (وأكد شرف الدين أنه شخصيا لم يكن أكثر ثقة بالتعامل بالليرة اللبنانية مثلما هو اليوم).
– بلوغ الودائع المصرفية حوالي ٩٦ مليار دولار في نهاية العام 2009.
– انخفاض معدل دولرة الودائع لدى المصارف من 77,34 بالمئة في بداية العام 2008 ليصل الى 65,03 بالمئة في كانون الأول من العام 2009 وذلك بسبب التحويلات الكبيرة من الدولار الى الليرة.
– ارتفاع التسليفات المصرفية للقطاع الخاص الى حوالي 30 مليار دولار في نهاية العام 2009.
– بلوغ الأموال الخاصة للمصارف حوالي 7,9 مليار دولار في نهاية العام 2009.
وردا على سؤال عن معنى أن يمتلك المصرف المركزي احتياطيا من العملات الأجنبية يبلغ حوالي 30 مليار دولار وامتلاك حوالي عشرة ملايين أونصة ذهب تقدر قيمتها بعشرة مليارات دولار الى جانب استثمارات عقاارية تقدر بعشرة مليارات دولار، مما يجعل الرصيد الاجمالي للمصرف المركزي 50 مليار دولار، في حين أن البلاد تعاني من مديونية عامة وصلت الى 50 مليار دولار، قال نائب الحاكم: إن الأمرين يمثلان ذمتين ماليتين مختلفتين وسياسة المصرف المركزي كما أسلفت تقوم على الاحتفاظ بأكبر قدر من احتياطي العملات الأجنبية لامتصاص أية صدمات قد يتعرض لها السوق.
مؤسسات الإمام الصدر
وتوجهت “صدى الوطن” بالسؤال الى السيد شرف الدين عن تقييمه لأوضاع مؤسسات الإمام الصدر، وعلى ضوء زيارته الأميركية مع رئيسة المؤسسات السيدة رباب الصدر شرف الدين للمشاركة في الاحتفال الخيري السنوي التاسع الذي تنظمه مؤسسات الصدر – أميركا، مساء السبت في 16 آذار (مارس) الجاري في المركز الإسلامي في مدينة ديربورن.
وأجاب السيد شرف الدين باسهاب مستعرضا تطور المؤسسات منذ ستينات القرن الماضي ونموها لتشمل العديد من أوجه الاهتمام والرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية والمهنية ومواكبة العصرنة في اساليب عملها وخلق امكانات جديدة لخدمة البيئة الاجتماعية التي تقوم على خدمتها. وأوضح شرف الدين أن العمل في مؤسسات الامام الصدر يقوم على منهج “الشراكة من أجل التنمية” موجزا هذا المنهج بـ:
– الشراكة بين العاملين والمستهدفين
– الشراكة بين المحتاجين والمقتدرين
– الشراكة بين المقيمين والمغتربين
– الشراكة بين المنظمات والحكومات.
وتناول السيد شرف الدين في حديثه “القيمة المضافة” للمؤسسات قائلا “إن اخبار مؤسسات الإمام الصدر صغيرة قياسا بالأحداث الكبرى التي تلف العالم. إلا أنها أخبار تحمل مغزى كونها تحدث التغيير العميق والمرتجى”. وأضاف “إنها تحمل قبسا من نور تضيء به بعض النواحي التي تغفلها الكاميرات، ظنا منها أنها نواح هامشية وضيقة. إنها تماما تلك المطارح حيث نبحث عن ضالتنا: أرملة معزولة، أم ثكلى، طفل معرض، قرية نائية، أو طاقة معطلة. ونؤمن جازمين بأن إضفاء النور على دروب هذه الحالات كفيل بأن يغمر النور كل الوطن، بل كل الدنيا”.
واضاف شرف الدين: تخيل هذا المشهد:
صبيحة كل يوم في إطار مؤسسات الإمام الصدر:
هناك 1300 طفل وطفلة يتأهبون ليوم دراسي في واحد من المعاهد الأكاديمية التابعة لمؤسسات الإمام الصدر.
وهناك 370 صبية أو امرأة يجهزن حقائبهن العملية للتدرب في معاهدنا المهنية والتقنية على مهارات صممت على مقياس ما تستوعبه المجتمعات الريفية من وظائف وتخصصات.
وهناك ما يربو على 220 شخصا للسهر على خدمة اولئك. إنهم السائق والحارس والمدرس والممرض والطبيب والاداري.
ميزتهم أنهم ثابتون في الارياف، وجدوى مؤسسات الصدر أنها ثابتة معهم توفر لهم فرص العمل المأمونة والواعدة وثباتهم يسهم في ثبات آلاف العائلات بفضل شبكة الحماية الصحية والاجتماعية التي نحكيها خيطا خيطا.
Leave a Reply