سأواجه ظروفي القاسية دون أن أحني هامتي.
بيتهوفن
سأحدثكم عن أختي، رغم أنها أصغر مني بسنوات عديدة، غير أنها شكلت مثلاً لي وللجميع في الذكاء والشطارة والاجتهاد، ودائما ما أتعلم منها وأستفيد.
ذاقت مرارة اليتم باكرا بوفاة الوالد، لكن ذلك كان حافزا لها لمواجهة الحياة بإرادة صلبة ومقدرة على الصبر والاحتمال وتحدي الصعاب والمثابرة على العمل والإخلاص فيه. تعلمت ونجحت وتجلت في مجال عملها في حقل التمريض. وقد لمست قلوب الكثيرين بما قدمته وتقدمه من رعاية وخدمة وتلبية رغبات المحتاجين والمتألمين الموجوعين بنفس راضية، لا ترى فيما تقدمه عملا يستحق الشكر عليه.
هناك أشخاص يتفق حولهم معظم الناس، ليس لأنهم أصحاب مركز أو نفوذ، بل لأنهم صادقون مع أنفسهم وأوفياء لعملهم. وأختي تنتمي الى هذا النوع النادر من البشر، الذي يجعل الحياة تستمر وتفوح بعطر العطاء والتضحية من أجل كل من تحب أو تعرف. أهدتها الحياة الفطرية السليمة الى الواجب الإنساني والعائلي والذي رأت نفسها ملزمة فيه بغير أن يدعوها أحد إليه أو يحثها على النهوض به، فتقوم به بإحساس أخلاقي نبيل وبأنه لا يليق بها النكوص عن أداء ما ترى أنها قادرة على القيام به ولو لم يتوقع منها الآخرون ذلك.
بنفس راضية لا يخالطها السخط أو التذمر أو الشعور بظلم الأوضاع العائلية لها والتي اضطرتها للقيام بالواجبات والمهمات الصعبة، دائما ما يكون عطاء شقيقتي هدية لعائلتها وللحياة عطاء مبرءاً وخالياً من شوائب الضيق والمن والشعور بعبء الآخرين عليها، أو التذمر من اضطرارها للقيام بما لم يكن هناك من يقوم به سواها، أو الشكوى من أن الحياة قد فرضت عليها هذه المسؤوليات الثقيلة.
أختي واحدة من السيدات العديدات ممن تتشرف الجالية بوجودهن وعملهن المخلص بصمت. وجودهن نادر في الحفلات الاجتماعية الفارغة ولقاءات التفاهة والثرثرة والنميمة لاستعراض الأزياء وإضاعة الوقت فيما لا ينفع. كل واحدة من تلك السيدات الناجحات تعتبر نموذجا عظيما لأمهات الماضي، أو أكثر أمهات الزمن الماضي من الجيل الذي حمل ورعى وربى وضحى، دون أن تنتظر على هذا كله، رضى الزوج أو بر ومحبة الأبناء واكتفى برضى الله، وهذا هو الأهم والأبقى.
هؤلاء الأمهات والسيدات، خصهن الله بقلوب رحيمة وفطرة سليمة بين الناس تساعدهن على التضحية من أجل رسالة أكبر من مجرد السعادة الزوجية والمال الوفير والراحة، وجعلهن نبعا صافيا للعطاء والمحبة في الحياة الدنيا، حيث ينتشر البغض والضلال، ومثلا للتسامح حتى ولو أخطأ الجميع ودلالة على الحقيقة إذا ساد الكذب وشمعة للأمل إذا امتلأت الأيام باليأس والقنوط، وبسمة رقراقة على الشفاه إذا امتلأت العيون بالدموع ودواء شافيا للوجع الجسدي والروحي ولمسة حانية دافئة في صقيع الليالي الباردة.
أشعر بالاعتزاز والفخر، في كل مرة، أسمع عن أختي كلاما طيبا تستحقه من الناس الذين تخدمهم بمحبة وصمت. أختي كانت ولا تزال الأم الصابرة المجاهدة الحكيمة والتي نذرت سعادتها وراحتها فداء لزوجها وأولادها والتي تجد في وجود عائلتها وعطائها لهم متعة عظيمة وتهون بجانبها ما تقدمه من تعب وتضحية.
هذه السنة، أكرم الله تعالى أختي الحبيبة بزيارة بيت الحرام وأداء فريضة الحج. أتمنى وأرجو أن يكون حجها مبرورا وسعيها مشكورا.
Leave a Reply