مريم شهاب
سؤال قديم، يتجدد مهما إختلفت الآراء. هل تبدأ التربية فـي البيت أم فـي المدرسة؟ واليوم كيف تربي ولداً وسط برامج القسوة والفظاظة والإباحات والسخرية من القيم الأخلاقية ومعاني الحياة؟
فـي رأيي، وقد أكون «دقة قديمة» أركَّز على البيت والعائلة بإشراف الأم والأب أولاً، ومهما تقدمت العلوم وتطورت النظريات التربوية، العائلة هي النواة الصحيحة لنشأة الأطفال، مهما كان مستوى العائلة بسيطاً فـي العلم والمعرفة، فهي تعوض الطفل ما يفتقده من عطف
وحنان، قد لا يجده فـي العالم الخارجي وخصوصاً فـي المدرسة.
أنا أقول ذلك عن خبرة، وفـي البال المرحوم أبي. الإنسان البسيط الأمي، لقد نشأت فـي حضنه وكان ينبوع القصة والخزان الغني بالأقوال والحكم وقبل كل شيء السلوك الإجتماعي القروي العفوي، والسليم رغم خلوِّه من نظريات التربية.
فـي طفولتي، لم تكن الحمامات متوفرة داخل البيوت، شكوت لأبي فـي أحدى المرات خوفـي الشديد من الليل والظلام والضبع والغول والوادي، حيث كنت لا أجرؤ على الخروج ليلاً من البيت لقضاء حاجة ملحة. طلب مني أبي أن أقول لنفسي بغيز كلام كل ليلة وأنا فـي فراشي إستعداداً للنوم: الله معي، الله ينظر إلي. إلى أن إعتدت ذلك ورسخ فـي ذهني أن الله معي وأن الله ناظر إلي وهو يحبني ومنه أستمد شجاعتي.
عندما بلغت التاسعة من عمري، سألني أبي: من كان الله معه وينظر إليه: أيعصيه أم يطيعه؟؟ فقلت لأبي ببراءة: يطيعه طبعاً! وصرت أصلي وأصوم دون أن يجبرني أحد.
وفـي مرحلة المراهقة والصبا، راجت موجة الإلحاد والشيوعية والحركة الوطنية. والشعارات الرنانة الجوفاء، وكان معظم الأهل فـي القرى يخشون على أبنائهم من تأثير الراديو، وقراءة الكتب والمجلات، إضافة إلى معشر الرفاق السيء. وكان أبي كلما خاف عليّ من الضعف والإغراءات يقول لي: إن من معه الله وينظر إليه ويحبه، يجب أن يكون مثل «جبل هارون» صلباً و«عقله يوزن بلد» ولا يتأثر بالغلط».
لا أعتبر نفسي من الحكماء والعلماء ضعفت كثيراً وتأثرت كثيراً على غير ما تقتضي الحياة ويفرض الدهر ويقسو البشر. لكني الآن أقدّر كلمات المرحوم أبي، وأذكرها كلما إحتضنت أحفادي وداعبتهم، بما حفظته من حكايات ظلت مغروسة فـي أعماق اللاوعي. لكن فـي الحقيقة، نحتاج كثيراً فـي هذا الزمن لمن يدربنا على أن نقول لأنفسنا هذه العبارة البريئة والبسيطة كل ليلة، إن الله معي، الله ينظر إلى ما أفعل». وبحاجة لمن يغرس فـي عقولنا، ووجداننا من وقت لآخر: من الله معه وينظر إليه هل يعصيه أم يطيعه. وإن طاعة الله وطاعة الأهل هي الغنى والزاد، مهما قست الأيام وتقلبت الظروف.
الأولاد الصغار ليسوا بحاجة إلى محاضرات عن الحلال والحرام، والخوف الدائم من الله لأقل هفوة ولأقل خطأ. الأم والأب ليسوا مع الأولاد فـي كل وقت وفـي كل مكان لمراقبتهم حين يعاملون الحياة بخفة وإهمال. كأب أو كأم راقب جيداً سلوكك الإجتماعي كل يوم. فمن الأهل يتعلم الأولاد السلوك القويم والإعتزاز بالتراث والأخلاق والحكمة وعدم الضياع فـي المجتمعات الغربية.
من قبل والآن وغداً، هناك آباءوأمهات، وبكل صراحة لا يصلحون أن يكونوا كذلك. إنجابهم للأطفال، هو جناية فادحة ويجب معاقبتهم عليها خصوصاً فـي هذه الأيام، وهنا فـي الغربة، حيث النمط الإستهلاكي والإهتمام بالمادة لإشباع الرغبات وإنشغال الأهل بجمع المال، قلَّل الوقت الذي يعطونه لأبنائهم، وصار الشباب اليافع عرضة لجميع أنواع التأثيرات السهلة والمباشرة، منها الديني والسياسي والإباحي والعنفـي والأخلاقي، وصار لهم رفاق فـي شتى أنحاء العالم، يتبادلون معهم الصور والأفكار والإغراءات والدعوات الفاجرة للتجربة. ولم يعد هناك مكان للعقل كي يحميهم من أسوأ العواقب بعد فوات الآوان: الندم.
Leave a Reply