منذ النزوح السوري إلى لبنان، والذي بدأ مع تدهور الوضع الأمني في الداخل السوري، صيف 2011، ظهر خلاف بين القوى السياسية اللبنانية، حول كيفية التعامل مع هذا الملف، بعد أن انقسم طرفا الصراع بين 8 و14 آذار الذي كان مازال قائماً في ذلك الزمان، بين مؤيّد للنظام السوري يقوده «حزب الله»، وآخر داعم لما سُمي «ثورة سورية»، كان النائب وليد جنبلاط رأس حربة فيه، متوقعاً سقوطاً سريعاً للرئيس بشار الأسد، و«تيار المستقبل» برئاسة سعد الحريري الذي دخل في المعركة بدعم مالي ولوجستي ووظّف النائب عقاب صقر بهذه المهمة للتنسيق مع قوى المعارضة في تركيا، ويضاف إليهما رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي هلّل لحكم «الإخوان» في مصر، مبشراً بتوليهم الحكم في سوريا.
هذه المواقف من الأزمة السورية منذ مطلع عام 2011، مازالت على حالها، وهي انعكست على الوجود السوري الذي نزح إلى لبنان، مثله إلى دول جوار أخرى، وكان نصيبه وفق الإحصاء الرسمي للأمم المتحدة مليون و200 ألف انخفض إلى مليون و30 ألف، بسبب هجرة نازحين إلى أوروبا ودول أخرى، أو العودة الطوعية إلى سوريا، إلا أن الإحصاء الرسمي اللبناني يتحدث عن رقم يتراوح بين ١.٥ و١.٧ مليون نسمة، يشكلون نسبياً ثلث سكان لبنان، الذي يتحمل العبء الأكبر من أزمة النازحين السوريين اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً وصحياً وأمنياً، وقدرت كلفة استيعابهم سنوياً نحو 7 مليار دولار، وفق تقرير لمصرف لبنان، فيما تساهم الأمم المتحدة أو ما يسمى بالدول المانحة بمبالغ قليلة جداً قياساً إلى حجم الاقتصاد اللبناني الذي يعاني من ضعف النمو، وتراجع الاستثمارات، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة بين صفوف الشباب وأصحاب المهن، تحت وطأة النزوح السوري الذي فاقم من أزمة البطالة والهجرة في صفوف خريجي الجامعات والشباب وهي أزمة كانت قائمة قبل الأزمة السورية.
عرسال وجرودها
عاد ملف النازحين السوريين إلى واجهة البحث بعد حادثة عرسال الأخيرة التي وقعت أثناء مداهمة الجيش ومخابراته لمخيمي «النور» و«قارية» في البلدة، لتواجه دوريته بخمسة انتحاريين فجروا أنفسهم فيها وفي أماكن متعددة، وهو ما كشف عن وجود إرهابيين في صفوف النازحين، الذين يتخذون دروعاً بشرية، لمنع الجيش من استكمال معركته ضد الجماعات الإرهابية في جرود عرسال، والتي هي مقدمة ربما للمعركة الكبرى التي يتم الحديث عنها، بأنها ستحصل مع اقتراب الذكرى الثالثة للهجوم الغادر الذي قامت به مجموعات إرهابية من تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» (القاعدة) على مواقع الجيش ومراكزه في عرسال يوم 2 آب 2014، بتواطؤ مع لبنانيين من أبناء البلدة ارتبطوا بالتنظيمين الإرهابيين، وشاركوا في الاعتداء الغادر الذي أوقع عشرات القتلى والجرحى والأسرى في صفوف الجيش فيما لا يزال مصير تسعة عناصر منه مجهولاً.
دور مشبوه للأمم المتحدة
أمام هذا الوضع الأمني الخطير الذي يهدد الاستقرار والأمن في لبنان، وُضع بند النازحين السوريين على جدول أعمال مجلس الوزراء، لاتخاذ قرار سياسي طال انتظاره لتأمين عودتهم الآمنة، لا طوعياً كما تطلب الأمم المتحدة وفق منسقتها في لبنان سيغريد كاغ، إذ أن التوجه لدى المنظمة الدولية، هو بقاء النازحين حيث هم، وهذا ما أكّدته تقارير الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي مون، والذي اكتشف وزير الخارجية جبران باسيل، أن توجهاً دولياً، هو لتوطين النازحين السوريين في لبنان، وهو ما حاولت كاغ نصبه مؤخراً، لكن العودة الطوعية التي تطرحها تصب في اتجاه بقائهم، أو على الأقل قسماً كبيراً منهم، وهو ما يقلق لبنان الذي تحوّل اللاجئون الفلسطينيون فيه إلى مقيمين دائمين منذ طردهم من أرضهم وبلداتهم في العام 1948 على يد العصابات الصهيونية، بالرغم من صدور قرار عن الأمم المتحدة رقمه 194، ينص على حق عودتهم إلى ديارهم، إلا أن القرار لم يوضع موضع التنفيذ قط، مما يثير ارتياب قوى سياسية وحزبية حليفة لسوريا كـ«حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، من أن توضع قضية النازحين في عهدة الأمم المتحدة ويكون مصيرهم «التوطين المقنع» كمصير الفلسطينيين، في حين يطالب آخرون بينهم سمير جعجع بترك الملف في عهدة الأمم المتحدة تلافياً لأي تنسيق أو حوار مع الحكومة السورية.
هنا يقع الخلاف، بين طرفين، الأول يؤيّد التفاوض مع دمشق، ويمثله «حزب الله»، و«حركة أمل» و«التيار الوطني الحر» و«الحزب السوري القومي الإجتماعي» و«تيار المردة» والنائب طلال إرسلان إضافة إلى قوى وأحزاب أخرى، في حين يصطف بالمقابل فريق يرفض الاعتراف بالدولة السورية، أو القبول بالاتصال أو التحاور مع «نظام مجرم» وفق وصفهم ومنهم الوزير مروان حمادة، حيث يؤكّد رئيس الحكومة سعد الحريري بأنه لن يرضخ لـ«حزب الله» بتعويم النظام، الذي «يقتل شعبه» ويشاركه فيه، في حين أن النائب وليد جنبلاط وكما في مواقفه المتقلبة يرفض ثم يقبل، ويطرح السؤال، ألا يفاوضون مع النظام أمنياً، ليعود ويسأل إلى أين سيذهب النازحون؟ ليقدم جعجع مطالعة يؤكّد فيها بأنه لا وجود لنظام أو دولة في سوريا للتفاوض معها، ويترك أمر النازحين للأمم المتحدة.
أبعاد دولية
في ظل هذا الخلاف الداخلي حول موضوع النازحين، والذي قد يهدد وحدة الحكومة في أي لحظة إذا لم يتم تداركه والتعاطي معه بعقلانية، بعيداً عن الأحقاد الشخصية، والأهداف السياسية، والارتباطات الخارجية، إذ أن مَن يؤخر البحث في هذا الملف هو قرار أوروبي وأميركي، كما قال نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، ليبقى ورقة ضاغطة على النظام السوري برأيهم، وإنما في الحقيقة يضغط على لبنان، الذي لا تريد أوروبا أن يكون ممراً للنازحين نحوها، بعد مسلسل التفجيرات الإرهابية الذي طال عدداً من عواصمها.
إضافة إلى الموقف الأوروبي والأميركي المؤثر في قرار الأمم المتحدة، فإن رفض عودة النازحين السوريين هو قرار عربي وراءه دول خليجية، لها بينهم معارضون للنظام السوري، وتضعهم كورقة للتفاوض في الوقت المناسب، وهو ما يتسبب في رفض الرئيس الحريري، التفاوض مع النظام السوري بشأنهم في الوقت الراهن، وقد حصلت تجربة في السابق، بأن قام الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني–السوري نصري خوري عام 2012، بمبادرة لضبط النزوح السوري دخولاً وإقامة وتنظيم عودته، ولم يكن قد بلغ عدد النازحين إلى ما هو عليه اليوم، واتّفق في حينه مع رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على آلية معينة، لكن رئيس الحكومة تريّث فيما بعد، لأنه لم يشأ تعويم هذا المجلس نزولاً عند ضغوطات قوى 14 آذار، ثم لأن السعودية كانت ترفض الاعتراف بشرعية «نظام آيل إلى السقوط»، فانسحب الرئيسان سليمان وميقاتي من البحث في قضية النازحين عبر المجلس الأعلى اللبناني–السوري، وكان الأول يمنّي النفس بالتمديد له في رئاسة الجمهورية، والثاني للتراجع عن «خطأ» إرتكبه، بقبوله أن يكون رئيساً للحكومة مكان الحريري الذي أسقطت قوى 8 آذار حكومته في كانون الثاني (يناير) ٢٠١١.
قنبلة موقوتة
فـ«القنبلة المؤقتة»، التي تمثلها أزمة النزوح السوري المهددة بالانفجار في وجه لبنان بأية لحظة، باتت أكثر واقعية لاسيما على المستوى الأمني، عندما فجّر إرهابيون أحزمتهم الناسفة بين عناصر للجيش اللبناني في مخيمات عرسال، كما أنها بدأ فتيلها السياسي بالاشتعال داخل الحكومة التي انقسمت إلى فريقين، لتعود أزمات الخارج إلى الداخل، بعد أن طوقت إثر انخراط «حزب الله» في القتال إلى جانب النظام السوري، كما أنها بدأت معالمها الاقتصادية، من خلال التحركات الشعبية والعمالية والمهنية والنقابية، المستمرة بشكل تصاعدي منذ نحو أكثر من ثلاث سنوات، ضد المنافسة أو المزاحمة التي يشكلها السوريون، فيما يعيش اللبنانيون عموماً أجواء القلق على مصير البلاد إذا لم تحصل عودة آمنة للنازحين السوريين، إلى المناطق المستقرة في بلدهم، ومنها محافظات قريبة من لبنان، كدمشق وريفها وحمص وريفها إضافة إلى حلب وأجزاء واسعة من سوريا انتهت فيها الأعمال العسكرية، في الساحل والوسط والشرق.
وتحت وطأة الضغط الاجتماعي والاقتصادي والأمني، يطرح حلفاء دمشق ضرورة التفاهم مع الحكومة السورية لتأمين عودة النازحين والمسلحين على حد سواء، وكان آخرها ما أعلنه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله بمناسبة تحرير الموصل من قبضة تنظيم داعش الإرهابي، حيث دعا إلى خروج المسلحين من عرسال وجرودها إلى أماكن آمنة لهم في سوريا، وكذلك النازحين، لاسيما بعد توقف المعارك على طول الحدود من الزبداني إلى جبال القلمون وقارة ويبرود. وفعلاً بدأت عائلات من نازحي عرسال العودة إلى بلدة عسّال الورد، كما إلى الطفيّل، وهو ما دفع بطرح الموضوع أمام الحكومة بعد أن نجحت التجربة الأولية، التي لا بدّ من وضعها موضع التنفيذ والبدء بسريانها في مناطق أخرى، لاسيما وأن أحداث سابقة، أبرزها انتخابات الرئاسة السورية قبل عامين، أظهرت أن غالبية النازحين مؤيدون للنظام السوري والرئيس بشار الأسد، مما يُسقط ذريعة أن هؤلاء معارضون وسيقتلون إن عادوا إلى وطنهم، بحسب ما تتذرّع به بعض الأطراف السياسية في لبنان، تنفيذاً لضغوط خارجية.
Leave a Reply