حافلات خُضر تنقل إرهابيي «جبهة النصرة» إلى إدلب. مشهد تحوّل خلال الآونة الأخيرة إلى واحد من أبرز السمات البصرية للمتغيّرات الميدانية في سوريا، منذ معركة حلب المفصلية، وربما قبلها بكثير.
ومن حلب، مروراً بالزبداني ومضايا، ومن ثمّ داريا والمعضمية… وصولاً إلى حي الوعر في حمص، لطالما ارتبط مشهد الحافلات الخُضر، بتسويات ميدانية، فرضتها، بطبيعة الحال، الانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه ضد المجموعات المسلحة، بما في ذلك تلك المنضوية تحت راية تنظيم «القاعدة»، كـ«جبهة النصرة» ومثيلاتها.
بالأمس، تكرّر المشهد في جرود بلدة عرسال اللبنانية. صحيح أن الحافلات الخُضر بدت قليلة، قياساً إلى تلك البيض، التي استقلّها ما يقرب من ثمانية آلاف شخص، من إرهابيي «جبهة النصرة» وأقاربهم، بعد انتصار ميداني حققه «حزب الله»، بغطاء جوي من الجيش السوري، وحماية مدفعية من الجيش اللبناني، إلا أن وجهة القافلة هي نفسها: إدلب.
هلوسة!
بطبيعة الحال، يتبارى منظّرو الهزيمة إلى نسج سيناريوهات تلامس الخيال –وفي بعض الأحيان الهلوسة– بشأن الحديث عن «تسويات تآمرية»، الهدف منها الانتقاص من الانتصارات الميدانية للمحور المحارب للإرهاب (سوريا، روسيا، إيران، و«حزب الله»)، عبر إثارة تساؤلات خبيثة بشأن السبب الذي يدفع المقاومة الإسلامية إلى القبول بانسحاب المسلحين إلى إدلب، في الوقت الذي تبدّت لها الغلبة الميدانية منذ الساعات الأولى لمعركة الجرود.
وأيّاً تكن خلفية هذه المقولات، إلا أنها تتجاهل التفريق بين التكتيك والاستراتيجيا، المفردتين المتلازمتين في المعارك الكبرى، فحرب على مستوى تلك الجارية في سوريا، حيث يتقاطع العامل الميداني، بالعامل السياسي، لا يمكن النظر إلى الخيارات المتخذة فيها، ضمن سياق ضيق، يحوّلها إلى مجرّد اقتتال هوليوودي، أو معركة تاريخية بين خيّالة، كتلك التي تُشاهد في الأفلام التاريخية.
تكتيك واستراتيجيا
في الواقع، فإن حرباً مثل الحرب السورية، وامتداداتها الإقليمية، لا يمكن تحقيق الانتصار فيها، من دون الموازنة المبدعة بين التكتيك والاستراتيجيا، وهو الأمر الذي ميّز المعارك الميدانية، التي شهدتها الأراضي السورية، منذ التدخل الروسي في أواخر العام 2015، وبداية التنسيق بين كافة أطراف القوى العسكرية، الهادفة إلى حماية الدولة السورية، وانقاذ محافظاتها كافة من براثن الإرهاب التكفيري.
وانطلاقاً من ذلك، لا يمكن النظر إلى معركة الجرود في عرسال، وما تلاها من اتفاق تبادل وانسحاب، سوى في سياق المعركة الكبرى، التي تتجاوز مساحة سوريا.
ولا يخفى أن معركة الجرود، التي حقق فيها «حزب الله» الانتصار الأخير، تأتي في سياقين استراتيجيين، يمتحور الأول حول معركة الحدود، التي نجح فيها الجيش السوري، في الوصول إلى الخط الحدودي مع العراق، في موازاة التقدم الميداني الذي حققه «الحشد الشعبي» في محافظتي الأنبار ونينوى، ما يعني أن الطريق الاستراتيجي لمحور المقاومة، الممتد بين إيران ولبنان، والذي سعى الأميركيون لقطعه، بداية من حرب العراق، وصولاً إلى الحرب السورية، قد بات مؤمناً، على النحو الذي بدأ يثير قلق الإسرائيليين، الذين تتجاوز صدمتهم، إزاء ما تحقق في عرسال، تلك التي أصابتهم بعد حرب تموز العام 2006.
وأما السياق الثاني، فيتمحور حول إدلب بالذات، التي باتت الوجهة الأساسية لتكديس إرهابيي «جبهة النصرة»، في ما بات يشبه القبر الكبير بما يمهّد لفتح المعركة الأخيرة، للقضاء على معاقل تلك الجماعة المرتبطة عضوياً بتنظيم «القاعدة»، والتي ستكون الساعة الصفر لبدئها، مضبوطة على إيقاع هزيمة «داعش» في الرقة ودير الزور وتلعفر، بعد خسارته المدوّية في الموصل، وبما ستؤول إليه العلاقات الروسية–الأميركية، التي يبدو أن جانبها الأمني والعسكري، لن يتأثر بقانون العقوبات، الذي أقرّه الكونغرس، ووقعه دونالد ترامب، وهو ما تبدّى في التصريحات الصريحة للمسؤولين الأميركيين في هذا الإطار.
ولا يمكن أيضاً النظر إلى معركة عرسال، بمعزل عن التطورات الجارية في إدلب نفسها، حيث ينذر تصاعد نفوذ الفصائل الجهادية هناك، بتحولها في المرحلة المقبلة إلى هدف للاعبين دوليين على الساحة السورية.
تلك التحوّلات تبدّت خلال الشهر الماضي، بشكل واضح، حين سيطرت «هيئة تحرير الشام»، وهي ائتلاف فصائل «جهادية»، أبرزها «جبهة النصرة» على مدينة إدلب، ما أنتج تغيّراً دراماتيكياً في موازين القوى، خلال ساعات، ومن دون معارك جدية، فيما عدا اشتباكات متفرقة، خاضها الجهاديون ضد «حركة أحرار الشام»، التي تحظى بنفوذ، وتتلقى دعماً تركياً وخليجياً، وانتهت بسيطرة «جبهة النصرة» على سبعين بالمئة من محافظة إدلب، بما في ذلك مركزها.
تحوّل استراتيجي
ولعلّ هذا التحوّل الميداني الدراماتيكي، من شأنه أن يجد حلاً لمعضلة، لطالما شكلت عائقاً في التنسيق الدولي في الحرب على الإرهاب، فالمعروف أن الجانب الأميركي، ومن خلفه التركي والسعودي والقطري، لطالما تذرّع بوجود فصائل مسمّاة «معتدلة»، في منطقة إدلب بالذات، لتعطيل أي عمل عسكري في هذه المحافظة، ولكن بعد التموضع الأخير، فقد باتت مواقع سيطرة الحليفين السابقين، أي «جبهة النصرة»، المتفق على تصنيفها إرهابية، و«حركة أحرار الشام»، التي تعتبرها الولايات المتحدة وحلفاؤها فصيلاً «معتدلاً»، أكثر وضوحاً جغرافياً.
ويمكن بالتالي لمحافظة إدلب أن تشكل الهدف المقبل لعملية عسكرية تستهدف التكفيريين، بعد أشهر من تداول معلومات عن هجوم تركي محتمل أو حتى روسي، وهو ما يمكن تلمّسه في الكثير من التصريحات والمواقف، التي تشي بأن الوقت لن يتأخر لكي يلقى المعقل الرئيسي لـ«جبهة النصرة» في شمال غرب سوريا، مصير الموصل، التي كانت حتى الأمس القريب المعقل الرئيسي لتنظيم «داعش» في العراق.
صرخة علوش
هذا الأمر، دفع حتى برئيس وفد الفصائل المعارضة إلى محادثات السلام، والقيادي في فصيل «جيش الاسلام» محمد علوش (الغوطة الشرقية)، إلى أن «يدبّ الصوت» عبر حاسبه على موقع «تويتر»، حيث كتب: «ندائي لأهلي في إدلب اعتبروا مما جرى في الموصل، فصائلكم تبخرت والقرار بيدكم ان قبلتم بسيطرة هؤلاء (جبهة النصرة) سيخذلونكم عند القتال وسيكونون أول الهاربين».
وفي هذا السياق، كان ملفتاً أن الحكومة التركية، سرّبت عبر ماكينتها الإعلامية غير الرسمية، قبل أيام، معلومات تفيد بالتحاق عناصر تنظيم «داعش» الهاربين، بصفوف «جبهة النصرة» في إدلب، وأن هذا ما يدفع باتجاه خطوات عملية، بدأت فعلاً، لتشكيل حلف روسي–أميركي–تركي–فرنسي من أجل شن عملية ضد الإرهابيين، لا بل أن مصادر الحكومة التركية أشارت إلى أن أنقرة وضعت بالفعل، مع عدد من الدول الأعضاء في «التحالف الدولي»، خطة من أجل تنفيذ عمل عسكري في محافظة إدلب، بالتنسيق مع الروس.
واشنطن تحذر
وأمّا المؤشر الأهم على ما يمكن أن يجري في إدلب، فقد جاء من واشنطن، حيث حذّر وزير الخارجية الأميركي ريكس تليرسون من «عواقب وخيمة» لفرض تنظيم «جبهة النصرة» سيطرته على محافظة إدلب.
وبحسب مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا، مايكل راتني، فإنه «ينبغي على الجميع أن يدركوا بأن (قائد جبهة النصرة أبو محمد) الجولاني، وعصابته هم من يتحملون مسؤولية العواقب الوخيمة التي ستلحق بإدلب».
وزارة الخارجية ذهبت أبعد من ذلك، في تبنّيها ضمناً الموقف الروسي، حين أشارت إلى أن «جبهة النصرة وقياداتها المبايعة للقاعدة سيبقون هدفاً للولايات المتحدة أيا كان اسم الفصيل الذي يعملون تحته»، موجهة النصيحة للأطراف التي انضمت إلى «هيئة تحرير الشام» لأسباب تكتيكية «بالابتعاد عن عصابة الجولاني قبل فوات الأوان»، ومشددة على أنه «في حال تحققت هيمنة جبهة النصرة على إدلب، سيصبح من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية المطلوبة».
عصفوران بحجر
هذه المتغيّرات الميدانية المرتبطة بإدلب، تشكل مفتاحاً أساسياً –لمن يرغب– في فهم الدوافع التكتيكية والاستراتيجية، التي شكلت أساس قرار «حزب الله» والجيش السوري، بانتهاج طريق التفاوض لانسحاب عصابة أبو مالك التلي من جرود عرسال، بما يؤمن من ضرب عصفورين بحجر واحد: تأمين الجبهة الجنوبية الغربية عبر تطهير السلسلة الشرقية لجبال لبنان من الخطر الإرهابي، بأقل الخسائر الممكنة (وهو ما تحقق في عرسال وسيستكمل على الأرجح قريباً في جرود رأس بعلبك والقاع)، وفي الوقت ذاته، الاستمرار في عملية تكديس التكفيريين –على اختلاف مشاربهم وجنسياتهم– في رقعة جغرافية محددة، تمهيداً لجولة عسكرية حاسمة، قد تشكل المحطة الأخيرة من كبريات معارك الحرب السورية، بما يمهّد الطريق لتسوية سياسية شاملة… إما في جنيف أو في أستانا.
Leave a Reply