من مجلس الخلاف إلى هيئة «الإتْلاف»: صبرا والإمام وزَعْمُ الفرزدق
منذ بداية الأزمة السورية حاولت قوى دولية وإقليمية استنساخ التجربة الليبية في سوريا فقامت بتجميع ما أمكن تجميعه في اسطنبول بتركيا من شتات أفراد وشخصيات سورية في فسيفساء متناقضة الأفكار والأهداف. فأغلب هؤلاء “المعارضون” مقيمون ويعملون بالخارج ولم يعرف لهم تاريخ ولا مواقف سياسية سابقة وقد حرص مُتبنوهم على تقديمهم للرأي العام الدولي على انهم مجلس ممثل للمعارضة السورية. ورغم الدعم المالي والإعلامي «الخرافي» وغير المسبوق الذي حظي به المجلس فقد فشل في أن يثبت نفسه ممثلاً حقيقياً للمعارضة السورية، فإضافة الى أنّ أغلب الأسماء في المجلس غير معروفة للسواد الأعظم من السوريين اشتدت الخلافات بين أعضائه على اقتسام الكعكة كما استقال منه البعض، وقاطعته مكونات أساسية لمعارضة الداخل وأهمها هيئة التنسيق الوطنية، في حين ظلت الجماعات المسلحة داخل سوريا أو المنتشرة على الحدود خاصة مع تركيا، سواء من السوريين أو من المجموعات العربية وغير العربية، منقسمة بولاءاتها بين شيوخ الفتاوي والدول المانحة للمال والسلاح. لكن ما بني على باطل فهو باطل، فقد سقط مشروع «المجلس»، لكن أصحاب الأجنده السورية الذين يسابقون الريح من أجل تكريسها أعادوا الكرة بتوسيع الإطار وجمعوا مرة أخرى الحابل والنابل في قطر، وأغلقوا دون الجميع الأبواب لتمارس عليهم الأطراف الدولية والإقليمة ضغوطا كبيرة وتهديدات بقطع التمويل، فرضخ الأغلبية ليولد اطار جديد تحت اسم «الإئتلاف الوطني» ضُم اليه المجلس السابق وأفراداً آخرين ونُصّب عليه معاذ الخطيب وهو إمام سابق للمسجد الأموي الكبير بدمشق.
ورغم الهالة التي أرادوها أن ترافق تأسيس هذا «الإئتلاف»، إلاّ أنه لم يكن في الجوهر مختلفاً عن المجلس الذي سبقه إلاّ كمياً لكي يبدو كمجلس موسع لكل المعارضة، لكنه كان في الحقيقة يفتقر الى وجود معارضة الداخل التي تعتبر أكثر أحقية وتمثيلاً. ولم تمض أيام على الإعلان عن انبثاق الإئتلاف الجديد حتى نبذته أغلب المجموعات الإسلامية المسلحة في الداخل السوري وأصدرت بيانا قالت فيه إنّ الإئتلاف لا يمثلهم ولا يمثل أهدافهم في تأسيس دولة إسلامية، في حين فتح «الجيش الحر» جبهة صراع على الحدود الشمالية لإخضاع الأكراد بقوة السلاح في محاولة للتحضير لتحويل اراضيهم الى منطقة عازلة لكن دون جدوى.
الرابط الجامع بين الرئيس الجديد لمجلس اسطنبول جورج صبرا وبين رئيس «الائتلاف» الخطيب أنّهما طالبا في أول تصريحين لهما بتعزيز تسليح المسلحين أصلاً.
طبعاً، شو خاسرين؟ الناس تدفع من حياتها وهم يستمرون في اشعال الإقتتال ليستمر تدمير بلدهم في حرب يخوضونها بالوكالة فيما هم قاعدين في نُزُل الخمس نجوم، وعلى رأي «الزعيمين» الجديدين، صبرا و«الإمام»، ذلك هو الطريق الوحيد لحل الأزمة السورية والذي يمر عبر إسقاط النظام بالسلاح، لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فقد يكون مآل دعوتهما مثل مآل زعم الفرزدق حيث جاء في بيت للشاعر جرير يهجوه فيه: «زعم الفرزدق ان سيقتل مربعا… فابشر بطول سلامة يا مربع».
هكذا إذاً، بعد أن كان «المجلس» السوري بالخارج سببا في بلبلة وخلافات بين مكوناته بسبب عدم تجانس أفكارهم وأهدافهم ومصالحهم جاء دور «الإئتلاف» ليكون «إتلافا» للفرصة التي قد تكون الأخيرة وللمجهودات التي تبذل لإيجاد مخارج سلمية للأزمة السورية ليُشرّع الباب على حرب مفتوحة على كل الإحتمالات.
بعد المال والجِمال: النظام العربي قطيع نعاج
اندلعت الحرب على غزة في ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، وكان الكثير من شعوب المنطقة ينتظرون أن يروا نفس الحماسة والتصميم الذين خبروهما من أغلب النظام الرسمي العربي تجاه الأزمة السورية ومن قبلها تجاه ليبيا من اجتماعات متواصلة للجامعة العربية ودعم مالي لمعارضة الخمس نجوم بالخارج وتسليح وحشد المقاتلين ودفع أجورهم، وتوظيف الإعلام على مدار الساعة، والذهاب لكل المؤسسات الإقليمية والعربية والإسلامية والدولية لعرض المشكلة والسعي بكل الوسائل في محاولة لإستصدار قوانين لشن الحرب على سوريا.
انتظر العرب أن يقوم النظام العربي بوقف التطبيع وسحب السفراء وفتح المعابر وتفعيل الدبلوماسية العربية والإسلامية في المحافل الدولية، وذلك أضعف الإيمان. لكن فوجىء الجميع بإرتباك المنظومة العربية التي كانت بوصلتها سوريا، وحاول الجميع لملمة الموضوع على عجل حتى يتمكنوا من العودة الى أجندتهم الإقليمية خوفاً من أن تُغطي حرب غزة على الأزمة السورية. ولحسم الموقف، تكفل الوزير القطري بوضع الجميع أمام الأمر الواقع حتى لا تذهب الأحلام بالشعوب كل مذهب، فأكّد ما نعرفه جميعا وهو أنّ كل اجتماعاتهم السابقة واللاحقة هي هدر للمال والوقت، ثم قال بكل «جرأة» ووضوح، «أغلبنا (يقصد القادة العرب) نعاج»، وهي صراحة يُحسد عليها. وكنا ننتظر أن يُـبَعْـبِعَ الحاضرون تأكيدا لرأيه لكنهم فاجؤونا بصمتهم. ولنا أن نتساءل هل هو السكوت علامة للرضا أم هو صمت النعاج؟
قبل حديث النعاج، كان الجميع يعلم أن خصائص النظام العربي في أغلبه وعلى مدى تاريخه تميّز بخاصتين:
1- كثرة المال الذي يبذرونه بلا حساب أو رقيب في كل ما لا ينفع البلاد والعباد ويهربون كثيراً منه الى بنوك أجنبية لخدمة اقتصاديات الخارج.
2- صفات النوق والجِمال وهي:
– البطء: فالعرب بطيئون في أخذ القرارات، ولا يأخذونها إلاّ بعد عكّ ولكّ، وكثيراً ما يأخذها غيرهم عنهم «بلا وجع راس وحكّ دماغ».
– الطاعة: النظام الرسمي مطيع كالناقة أو الجمل، تركبه وتوجهه حيث تشاء فلا يتمرد ولا يسألك؛ ثلث الثلاثة كام؟
لكن بعد حديث النعاج، أدركنا اننا لم نخرج أصلا من دائرة الكائنات الأليفة وأنظمة القطعان الذين صارحوا الجميع بما لا يدع أي مجال للشك أو اللبس: «لا تنتظروا منا شيئاً». وفي الحقيقة لم يكن أحد ينتظر منهم شيئاً، وإن انتظر فشيئاً ممّا يحصل دائماً تنديد وبيان من باب رفع العتب ويادار مادخلك شر، وقد تطور الموقف هذه المرة نسبياً عندما سحبت مصر سفيرها وبعثت وزيرها الأول لغزة ثم أشرفت على مفاوضات الهدنة بين غزة واسرائيل، وكذلك فعلت الجامعة العربية بإيفاد بعض وزرائها وكاد الحج لغزة يصبح موضة، وإن كان ذلك مرغوباً للدعم المعنوي فإنه لن يغير في معادلات صراعات المنطقة شيئاً.
وفي ظل دورها الذي اضطلعت به في الأحداث الأخيرة كانت حكومة مرسي تقوم بالوساطة في حين كانت حكومة الظل التي تمثلها الجماعة في مصر تُهيىء لتَجْني ثماراً أخرى أهم لتوطد بها سلطان مرسي ليصبح الآمر الناهي، ومرة أخرى، وبضربة معلم قُلِبَت توازنات الداخل المصري. فكيف تم للجماعة ذلك؟
مرسي يوطّد سلطانه: غزة أولاً.. وغزة ثانياً
استطاع النظام المصري الجديد أن يستغل حادثتين ليضم صلاحيات المؤسسات العسكرية والتشريعية والقضائية إلى الرئيس مرسي:
الأولى حصلت على حدود غزة حيث قامت جماعات مسلحة مصرية بمهاجمة حدود مصروغزة وقتل حراس مصريين تمكّن بعدها مرسي من توجيه اصابع الاتهام الى القيادات الأمنية بالتقاعس ممّا أثار نقمة الشارع على العسكر بسبب رفضه التسليم للنظام المدني وخاصة بسبب مقتل الجنود فقام مرسي في ١٢ آب (أغسطس) 2012 بإقالة القيادات الأمنية والعسكرية خاصة المجلس العسكري بما في ذلك رئيسه القوي المشير حسين طنطاوي والذي كان يمارس بعض من صلاحيات الرئيس كما تخلص من رئيس المخابرات وبذلك تخلص مرسي من خصوم لهم ثقل كبير في الدولة وكانوا يقبضون على مقاليد السلطة بيد من حديد.
ومرة ثانية وإثر العدوان الأخير على غزة ، سحب مرسي سفير مصر من اسرائيل ثم أوفد وزيره الأول الى غزة في محاولة لكسب الشعب المصري والعربي ثم اضطلعت الدبلوماسية المصرية بلعب دور الوسيط في تحقيق تهدئة في غزة فساهمت هذه الإجراءات في إعطاء القيادة الجديدة مزيد من الشعبية وفي ظل زخم تهدئة كانت لحكومة الظل للجماعة تراقب الاحداث وتهيئ لتحولات عميقة للأنقلاب على نظام الدولة وفعلا فاجأ مرسي اغلب المراقبين وقام الخميس 22 نوفمبرالجاري بإصدار إعلان دستوري جديد منح نفسه بموجبه، إلى جانب صلاحياته التنفيذية، صلاحيات تشريعية وقضائية جعلت منه حاكم مصر المطلق.
وجاء إعلان مرسي الدستوري في سبع نقاط أهمها:
– منع أيّ هيئة قضائية من حلّ مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية المعنية بكتابة الدستور الجديد.
– تحصين قرارات رئيس الجمهورية، وجعلها نهائية ونافذة، فلا يمكن وقف تنفيذها من أية جهة قضائية.
– تعيين نائب عام جديد بقرار من رئيس الجمهورية.
– للرئيس أن يتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية البلاد وحماية أهداف الثورة وقد اثارت هاته القرارات الاستبدادية غضب جزء هام من الشارع المصري والاحزاب المدنية ولا يزالون مرابطين في ميدان التحرير كما قام متظاهرون آخرون بحرق مقرات حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي للإخوان وشهد مكتب مرسي استقالات بعض مساعديه احتجاجا على توجهه الإستبدادي الشمولي أهمها إستقالة سمير مرقص مساعد رئيس الجمهورية لشؤون التحول الديمقراطي وكذلك مساعدة الرئيس سكينة فؤاد، ويتهيأ قضاة مصر إلى شنّ إضرابات والدخول في اعتصامات بنادي القضاة احتجاجا على ما اعتبروه اجراءً فاشياً يُقوّض بمقتضاه رئيس مستبد دعائم دولة القانون والمؤسسات. الموقف مرشح لمزيد من التصعيد خاصة مع تمسك المعارضة بإلغاء «الاعلان» وتصريح مرسي في خطاب الجمعة الماضي وسط جماهيره أمام قصر «الإتحادية» أن لا تراجع عن قراراته.
يبدو أن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة من أخطر مراحل تاريخها وستحدد طبيعة النظام العربي الجديد ثلاث قضايا هامة وهي ما سينتهي اليه الصراع على سوريا وما ستفضي اليه الصراعات على طبيعة النظام في مصر وما ستنتهي اليه القضيتان سيحدد مستقبل القضية الفلسطينية وسينتج نظاما عربيا جديدا ستحدد طبيعته التوازنات بالمنطقة..
Leave a Reply