أتصفح اوراقي القديمة التي حملتها معي حين غادرت أرض الوطن لأبحث عن وطن، فتسقط منها بضع صور تعيدني إلى أيام بعيدة لا يزال الحنين يشدني اليها. هذا منزلنا، وهذه جدتي، تجلس أمي بالقرب منها، وذاك أخي وأبي، وذاك القميص لا ازال اذكره… وتلك لعبتي الصغيرة…. هذا جارنا… وهناك شخص آخر لم أعد أذكره، لعله ابن الجيران ايضا… ذكريات تفيض بلحظات بكل ما تحمل من حلو الأيام ومرّها، من عائلة تسكن في الصور الى بيوت أغلقت ابوابها العتيقة على أيام أتمنى لو أعود لأعيش ساعة من ساعاتها، لو أستطيع لما ترددت…
أتدارك نفسي واستدعي جنود العقل لتحتل مساحات الحنين، هنا أفضل… هنا أعيش… هنا أمان وإستقرار… هنا دول العالم الأول… هنا العلم والمعرفة واحترام الحرية الفردية…
أه منك أيها العقل… ما جنودك الا عملاء خونة يحيدونك عن إدراك عواطفك وحقيقة إحساسك، يمنعونك من النظر بإيجابية الى وطنك الذي هجرته، يحرمونك من استعادة الحنين الذي ما تركك يوماً، الحنين الى أرض الجذور الراسخة… الحنين حتى الى إهداء فاتحة عن قرب لعزيز، الحنين الى شوارع كانت تختصر دول العالم… حنين أعشقه وأعيش لأسترده ولكن…
يا جنود العقل انزلي ساحات القتال، انزلي بغضبك وحقدك القديم، انزلي بدفاعاتك الواهمة وسلاحك العتيق، ارني شجاعة رجال ما هابوا التغيير وما خافوا من فك حصار الجهل… انزلي يا جنود العقل ولنتبارز في جميع الساحات ونحدد من هو الضعيف الخائف المتلطي خلف جدران الوهم، ومن هو المؤمن الشجاع المتسلح بالأمل وحب التغيير….
سنون مضت، ولاتزال طيور نوح تبحث عن مهبط لها، عن مساحة تستقر بها، عن مساحة علّها تكون وطن جديد، وطن بالشعور لا وطن بالحجر… ولم تجد ولن تجد… لان الوطن هناك حيث تركناه، حيث أقلعنا ولم نقلع عن محبته والحنين اليه…
عودي أدراجك يا طيور… عودي الى تلك الأرض الجميلة، الى تلك الشوارع الضيقة والصدور الواسعة…
أجلس والصور بيدي، وأستشرق المستقبل… أتخيل لحظة العودة والإستقرار… ولكن كيف؟ او ليس الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن؟ بلى، ولكن… لكن الفقر هو الجهل، والفقير هو فقير العقل، والغنى ليس بالثروات الفانية بل بمعنى وقيمة الساعات التي نقضيها فرحين سعيدين مع من نحب وحيث ننتمي… أين الإيمان والعزيمة لتحويل غربة الوطن، الى غنى في الوطن؟ ان كنا نحن حقاً أصحاب كفاءات وعلوم ومعرفة، فلننزل ونختبر قيمة كفاءاتنا وعلومنا ومعارفنا، فلنضعها ولو لمرة في خدمة تلك الأرض التي حررت واستعادت كرامتها… اوليس إحتلال الجهل لأرضنا أشد وأفتك من إحتلال العدو؟ لمن حرر هؤلاء الشهداء الأرض، الم يدفعوا حياتهم حتى نعود لنعمرها؟ الم تكن وصيتهم وقضيتهم الوحيدة هي تلك الأرض؟ لمن نتركها؟ لماذا نقف دائماً خلف حجج باهتة تفتقر المنطق والشجاعة؟
آه يا وطني، لو تعلم ما هو حلمي لك؟ أحلم بأن أرى أسراب الطائرات عائدة اليك، كلٌ الى قريته ومدينته، كل يحمل عمله وعلمه ويعود إليك، نعمر بيوتنا، نخلق فرص عملنا، نستثمر في خيرات أرضنا وما أكثرها…
أحلم أن أرى أرضنا الطاهرة المقدسة تنتفض على سنين الدمار والخوف، ارى كهولا وأطفالا، رجالا ونساء يبنون وطنهم مستفدين من خباراتهم في الغربة، ارى رجال الأعمال يحملون تجاراتهم ويضعونها على تلك الخريطة الصغيرة، ارى الأطباء والممرضين يضمدون جروح الوطن، ارى المدرسات والمدرسين، المهندسون والمهندسات، المحامون والمحاميات، رجال التكنولوجيا والمعلوماتية… كلهم عائدون يلبون نداء الوطن…
أرى فرحة العيد الحقيقية على وجوه الأطفال، أرى خجل الفتيات وهن يشققن دروب الساحات، ارى سواعد الشباب ترتفع الى السماء… أرى تحريرا للبشر والحجر… اسمع الأرض تدندن زكي نصيف “راجع يتعمر” أراك يا وطني.. أراك.
Leave a Reply