لو أبدى الفلسطينيون في غزة على مدى سنة كاملة من الحصار والتجويع شيئا من الضعف، ولو لم تكن قيادتهم صلبة في وجه الهجمات والتهديدات التي تعرضت لها، ولو كان رجال المقاومة هناك يخشون الموت، واستكانوا لحياة آمنة تخلو من الأخطار، لاجتاح الجيش الإسرائيلي غزة ودمرّها وروّع نساءها وأطفالها، وقتل مناضليها وساق قياداتها إلى سجون تل أبيب مكبلّين بالأصفاد.
لكنها معادلة صعبة اجترحها الشعب الفلسطيني قضت باستمرار الصمود ومواصلة المقاومة، وصولا لإنجاز «هدنة مشرّفة» يعتبرها الكثيرون باكورة لإنتاج النصر، تجلّت أولى ثمارها بفك الحصار عن قطاع غزة ودخول المواد الغذائية والأدوية والوقود إليها، ووقف الهجمات عليها، وارتداد القوات الإسرائيلية عن حدودها، على أن تستكمل إجراءات هذه الهدنة لاحقا في الضفة الغربية.
واللافت في بنود هذه الهدنة إنتفاء فرض شروط إسرائيلية على الطرف الفلسطيني، باعتبار إسرائيل دولة تتفوق على الفلسطينيين عسكريا وتكنولوجيا وإقتصاديا وماليا وديمغرافيا، حتى الجغرافيا تقاتل إلى جانب الإسرائيليين، باعتبار غزة جزيرة معزولة تحيط بها الدولة العبرية إحاطة السوار بالمعصم.
كانت قيادة المقاومة حين سدت في وجهها السبل، نحو إعادة العلاقات مع رام الله والسير في طريق يقضي إلى الوحدة الوطنية، وحين رفضت إسرائيل ومصر ومن ورائهما العالم المناشدات لفك الحصار عن أهالي غزة، لجأت تلك القيادة إلى إعتماد أسلوب صارم من ثلاثة أبعاد في تعاملها مع جيرانها، حين شارف شعبها على الإختناق، فتوعدت مصر باختراق حدودها ولو أدى ذلك إلى مجازر وسفك دماء على الحدود بين الرفحين المصرية والفلسطينية، في حين دفعت إشارات إلى السلطة في رام الله تفيد بقدرة حماس على فتح معارك في الضفة الغربية لإسقاط النظام فيها، مع ما يتبع ذلك من فوضى، تتيح إعادة خلط الأوراق بما يكفي لإنهاء مفاوضات سياسية بين عباس وأولمرت مضى عليها شهورا دون أن تحقق أي نتائج برغم دعم أميركي مزعوم بإقامة دولة فلسطينية قبل إنتهاء العام.
أضافت قيادة المقاومة في غزة بعدا ثالثا في صراعها من أجل فك الحصار، تمثل في مواصلة وتدعيم قصف البلدات الإسرائيلية بصواريخ القسام، والتشدد في الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط، مستفيدة بذلك من ضعف الموقف الجماهيري المؤيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي، خاصة في أعقاب فضائحه المالية.
أدت إستراتيجية المقاومة في تعاملها مع جيرانها بهذه الدرجة من الشدة، أن يفلتوا الحبل عن رقاب الغزيين قبل أن يختنقوا هم أنفسهم فيه، فالرئيس المصري ليس في وضع سياسي مترف، يجعله قادرا على فتح معارك مع الفلسطينيين، وشعبه يكابد للحصول على لقمة عيش غاب فيها الرغيف من الأسواق، والرئيس الفلسطيني أنهكته المفاوضات مع الإسرائيليين دون أن يحقق شيئا ملموسا، فلا يدري ما سيقوله لشعبه بعد انتهاء العام، ورئيس الوزراء الإسرائيلي أضنته الفضائح وأعوانه ينهشونه للإستيلاء على منصبه.
هدنة يمكن القول أن الفلسطينيين فرضوها بالقوة ودليل ذلك إنتهاك حركة الجهاد الإسلامي لها بعد اسبوع من توقيعها، عبر قصف بلدات إسرائيلية بالصواريخ، ردا على إغتيال اثنين من قادتها في نابلس في عملية نفذتها قوات إسرائيلية خاصة، ما يعني أن الهدنة سيفرضها الفلسطينيون عنوة على أعدائهم في غزة أولا وسيفرضونها في الضفة الغربية كذلك.
Leave a Reply