فاطمة الزين هاشم
نستيقظ كلَّ يوم لنواجه نمطاً متكرّراً فـي حياتنا، وكأنّه غير قابل للتغيير، فنستقبل أيّاماً يشبه بعضها بعضاً، حيث أنّ أماكن تنقّلاتنا محدّدة ومرسومة لخطواتنا، ومن ثمّ يتسرّب الملل إلى نفوسنا، فنحاول بالفطرة أن نغسل وجوهنا من غبار الكسل، ونحمل كيس الصبر لنوزّعه فـيما يصادفنا من طريق الفضائل، وكم نحاول أن نقبض على زمام الأمور حين نرى الحياة سوقاً يضجّ بالمغريات.. ما أصعب السباحة فـي غدير التمساح، وما أشقّ السفر فـي الأرض القاحلة، فالنهار يلاحقنا بتلبية حاجاتنا، والليل يقتضينا بردّ دَين الحبّ، فلا وجهَ للراحة.
تفتح التلفزيون فـيعرض عليكَ فـيلماً سبق وأن شاهدته ستّ أو سبع مرّات، أو تربطك مذيعة ما ربطاً من عنقك لأربع ساعات فـي برنامج لا تخرج منه إلّا بصداع الرأس وخسارة الجيب على حبوب الـ«موترن» أو هدر أربعة إلى خمسة أكواب من القهوة والشاي.. تراها تقابل مطرباً أو ممثّلة ولا تمنحك طيلة فترة البرنامج إلّا الضحك واصطناع الابتسام بميوعة ظاهرة، ممسكة بالاستحواذ على الحديث باستمرار، وكأنّها أخذت على عاتقها كمضيّفة، إغلاق فم الضيف، وإذا حوّلت القناة لتستعرضَ نشرة الأخبار، تصدمك مشاهد اللاجئين العرب الذين يموتون فـي عباب البحر غرقاً، بينما رؤساء دولهم يأكلون الكافـيار وينامون على الديباج ونساؤهم تكتنزن الذهب والماس عدا عن اقتناء الثياب الفاخرة المستوردة من أكبر عروض الأزياء العالميّة، أمّا عن أنواع وأشكال الأحذية التي لا تعد ولا تحصى كما فعلت ميلدا ماركوس زوجة رئيس الفـيليبين السابق حيث عثر فـي خزانتها على 250 زوج من الأحذية.
وبين هذا المدّ والجزر تفضّل أن تلجأ إلى مكان يريح أعصابك من هذا العناء وتسرّي به عن همومك فتريحها ولو قليلاً من هذا الجحيم الجاثم على الصدر والمنهك للقوى، وهذا ما فعلته أنا وصديقتي الطبيبة الآتية من ولاية بعيدة لتمنح أعصابها الإسترخاء من عناء العمل وصراخ المرضى.
تصادف الأسبوع الفائت إحياء حفلة موسيقيّة من قبل فرقة الأوركسترا العربيّة فـي ديترويت، فذهبنا إليها معاً، وياله من جوّ رائع وعزف يدخل القلب من أوسع أبوابه، ويزيح تراكمات وأحزان السنين المضنية، فاستمتعنا بلحظات الطرب الأصيل الذي يعيدكَ إلى زمن الفنّ الجميل والوجوه الأصيلة، زمن الأندلسيّات الخالدة، زمن عمالقة الطرب وآداب الأداء على المسرح بحساب الحركات بكلّ دقّة، واحترام ذوق الجمهور والتقدير العالي لوجوده، تناوب عدّة مطربين على تأدية وصلات أغانيهم، وكان لكلّ منهم نكهة خاصّة وأداء مميّز، خاصّة حين صعودهم على خشبة المسرح، ذلك الصعود البهيّ الذي ينمّ عن الثقة بالنفس والاندفاع المخلص لإسعاد الجمهور، حتّى قائد الأوركسترا كان كالفراشة دائم الحركة، ويعزف على عدّة آلات موسيقيّة بحرفـيّة نادرة جعلت الجمهور يتفاعل معه ويمطره تصفـيقاً وإعجاباً، ولم يُستثن من ذلك، الأجانب من جملة الحضور، حيث كان عددهم متساوياً مع عدد العرب، وممّا زاد الحفل رونقاً، إدخال بعض مقاطع الموسيقى الأجنبيّة متجانسةً مع الموسيقى العربيّة على يد سيّدة أجنبيّة عازفة فـي غاية النشاط والعنفوان، ولو كانت تلك السيّدة عربيّة لنشروا غسيلها على أعمدة المدينة ونعتوها «بالجهلانة» وقالوا «خلّيها تروح تجلس على المصلّية وتنتظر آخرتها»، ليلاحقها التخلّف السائد ظلماً للأسف.
هذا الفنّ الراقي لا نريده أن يندثر ليحلّ محلّه الفنّ التجاري والرخيص وعرض الأجساد والمؤخّرات على شاشاتنا وتخريب سمعتنا ورؤيتنا والضحك على عقول شبابنا مثل «بوس الواوا» وغيره، ويا حبّذا لو تُستعاد مثل هذه الأمسيات حتّى ولو مرّة فـي الشهر، لنستمتع بأيّام لا تهرب منّا بسرعة البرق، ولنعوّد أبناءَنا على حضور حفلات الفنّ الراقي، ونحيلهم إلى زمنه الجميل، زمن أم كلثوم وأسمهان وغيرهما، زمن وديع الصافـي وشموخه كأرز لبنان، زمن شحرورتنا التي ذاع صوتها الرخيم فـي شرق وغرب العالم، وكذلك فـيروزتنا سفـيرة النجوم.
أين نحن اليوم من هذا كلّه؟ لقد أصبح الفنّ اليوم كسوق النخّاسة، فالمادّة هي صاحبة الموقف و.. نيالك يا أطرش.
Leave a Reply