فاطمة الزين هاشم
تبدأ الحياة بوهجها وزهوها عندما تتكون العائلة وتجتمع تحت سقف واحد، يرفرف الحب فـي حناياه وتجمع المودة أفراده وترسخ المحبة جذوره ويقوي الإيمان أعمدته ويرفعها عالياً.
إن السعادة ترياق الحياة وشريانها الذي يروي النفوس ويمدها بالعزيمة ويبلور النوايا الصادقة التي من شأنها دفع عجلة الحياة بالإتجاه الصحيح لكن الظروف تلعب دوراً فـي مؤامرة جميلة على قلب نظام الزمن، حين يكبر الأولاد ويأخذ كل منهم طريقه نحو الإستقلالية أو بناء عائلته الجديدة أو السفر إلى مكان بعيد عن الأهل، لوجود فرص عمل أفضل، فـيبدأ تناقص أفرادها رويداً رويداً، ويتشتت تفكير الأم، تلتحق بمن وتبقى مع من، لكن فـي النهاية النتيجة واحدة الكل مشغول بنفسه وتبقى الأم وحيدة. تنهش الوحدة قلبها ويطول ليلها وإذا سقطت فإنها تسقط كأوراق الشجر، وتصبح الأيام عندها تقاس «بشبر» طفل صغير. تحاول مغادرة ظلمة الظنون التي تستوطن نفسها. وعندما يسجا الليل وهي مازالت يقظة تنظر حولها فلا ترى إلا الجرائد والمجلات وفنجان قهوتها الصامت على منضدتها يذكرها بصباح فات كغيره، ومرور وقت جاثم على جسد الكون، تنهال أحراش الظلام التي استعادت سرها من نواميس الغموض تلتف حولها.
تسأل نفسها، ما الذي حصل لي، وأنا الذي أملك آلاف الأبواب لا أملك نصف باب لأخرج من هذا المأزق؟ أنفاسي تتساءَل ماذا تريد مني الحياة. الذكريات تجلس فـي الأدنى لذاكرتي تقرؤني على مهل وأطردها على عجل. هل يستطيع الإنسان أن يغلق نوافذ الذكريات؟ ويسدل الستار على الماضي، إن صهيل القلب لا يألف السكون ولا النوم على فراش ذابل، النهر لايموت وتبقى المياه سادرة فـي الرحيل، قد يجف لكنه يظل يحلم بالعشب ويشرب حجارة الأطلال.
الأم تكره الوقوف على الأطلال لأنها إمتداد للماضي المفضي إلى اليأس والغوص فـي الأعماق، ترفض أن تسير فـي سهول المرارة التي لا نهاية لها، ولا أن تدفع ثمن فرح لم يكتمل.
الوحدة تهدد بالمصائر الغامضة، خاصة إذا عاشت الأم فـي فراغ يملؤه عبور الأشباح والأطياف والأفكار الشاردة. فقد تنشغل كمدينة مفعمة بغثيان النوافذ، تنتظر يد الرحمة التي تمتد من الغيب لتنشلها مما هي فـيه، وتدب بها القوة من جديد، لأن الظلام الدامس يستدعي إختراع النور من جديد لكي ُيعتق من كابوس الحياة. وما نحن إلا أناس مدمنون على التعاسة، نفوسنا شاحبة وقلوبنا ترتجف وتنتفض لأقل حدث، نعيش فـي غيبوبة دائمة من بخار الأفكار السوداوية، نسينا العواطف وكل ماهو مرهف وجميل، وذهبنا، القلوب قد ماتت وتحجرت وأصبحت قطعة جامدة كالحجر. تنظر للسعادة كجائع ينتظر وقوع رغيف بين يديه. الحجارة لا تورق خبزاً. ولا أشجار الصنوبر تثمر ياقوتاً.
أيتها الأم حاولي الإنتفاضة على نفسك ولكن بدون «حجارة» «غربلي» سنوات عمرك وإنتقي منها الأحداث الجميلة والإنجازات المشرفة وعيشي بعقلك كما كنت تعيشي، بقلبك فـيما مضى، ولا تتركي مجالاً لليأس أو الندم على الماضي، نعيش الحياة مرة واحدة لأنها لا تحسب بعدد سنوات العمر، لكنها تحسب بأوقات السعادة والعبر التي أخذناها من الحياة، أطرحي وراء ظهرك كل ما هو مؤلم ومؤذ عودي للحياة واقبلي بنشاط الشباب وحيوية الصبا واقبلي الواقع وانفضي عن ظهرك غبار السنين وأطلقي لنفسك العنان كي تغردي فـي فضاء الحياة الجميلة، زوري المكتبات وإقرأئي الكتب وعيشي فـي غياهم القصص المفـيدة، إنتقي الأصدقاء المخلصون واقضي معهم أوقات فراغك، اشغلي نفسك بأشياء مفـيدة عندها تطردين الوحدة وتنتصرين عليها.
Leave a Reply