للوهلة الأولى ترفض التصديق!
اللبنانيون ليسوا صيدا سهلا للأقدار.. أو هكذا كنت أتوهم!
لم يخطر لي أن الطقس الغاضب، مهما عتا غضبه، يمكن أن يحول الشاطئ اللبناني الحالم إلى غول يبتلع أجساد صفوة من بني لبنان قبل بزوغ الفجر، في واحدة من رحلاتهم الصاخبة التي لاتنقطع إلى أقاصي الأرض.
قد يسقط اللبنانيون بلا أي سبب، لكنك تخال أنهم يختارون سقوطهم بإرادتهم، ويمشون إلى أقدارهم بأرجلهم.
ليس من الحكمة، إحتراماً لذوي الضحايا، أن يسهب المرء في التحليلات والتكهنات حول أسباب الكارثة التي حلت بالطائرة الإثيوبية المنكوبة وهي تغادر سماء بيروت مقلة تلك الكوكبة من اللبنانيين واللبنانيات الذين ضاق بأحلامهم وطموحاتهم أفق الوطن الذي أحبوه حتى الموت.
يموت اللبنانيون من أجل وطنهم. ليس هذا شعرا ولا زجلا.
هم يدركون أخطار السفر والإقامة والعمل في مختلف قارات الأرض، وأخصها القارة السمراء. لكنهم لا يأبهون لركوب المخاطر، هي جزء من حياتهم اليومية في البر والبحر والجو، في الليل والنهار وعلى حدود الضوء الفاصل بينهما.
لكن اللبنانيين لم يعتدوا الموت الجماعي، إلا في الحروب الكبيرة. حتى في هذه الحروب لم يسقطوا بهذا العدد دفعة واحدة، إلا في ما ندر!
هزت كارثة الطائرة الإثيوبية الوجدان الجماعي للبنانيين، ونشرت اللوعة والأسى على مساحة الوطن المقيم والوطن المغترب.
كأن جسرا بينهما قد انهار. وكأن تلك الكوكبة ممن يضجون بالحياة قد صرخت بصوت واحد وهي تسرع إلى مصيرها: أما آن لهذا الليل أن ينتهي؟!
قاس أن تغادر ليل بيروت على حدود فجرها. لطالما خبرت هذا الشعور، ونزفت ألما على فراق أرض لبنان، وسمائه ومائه. لا يختلف أولئك المغادرون مع الفجر عن أترابهم المالئين الأرض بقاماتهم والمنزرعين على حدود الخطر الدائم والداهم، لكنهم لا يأبهون!
غدا قد يفصح “الصندوق الأسود” عن بعض أسرار الكارثة، وقد تبقى حبيسة المصالح والحسابات التي لا تقيم وزنا لتسعين من الأرواح المزهقة والأجساد المبددة في قاع البحر. لكن “الصندوق الأسود” لغربة للبنانيين سيحتفظ بـ”أسراره”.
هذا وطن يقتات على طموحاتهم وخبز أحلامهم ويشرب من عرق كفاحهم. بدونهم قد لا يعود له معنى. هم يدركون ذلك، فيسارعون إلى استشكاف الآفاق والتنقيب عن الفرص، مثل تلك النوارس التي حامت فوق حطام أجسادهم. لا تتعب أجنحتهم من التحليق ولا يستقرون إلا تأهبا لانطلاقة جديدة.
أربعة وخمسون قمرا اشتعلت بأضواء عيونهم صفحة البحر في ليلة عاصفة مع أولئك الإثيوبيات الكادحات العائدات الى موطنهن محملات بحصاد الكدح وفرح العودة.
لكن عزاء الأهل والأحبة وأبناء الموطن، أن شهادة أبنائهم وأخوتهم وأخواتهم وأطفالهم وآبائهم وأصدقائهم خطت ذلك المشهد الوطني اللبناني النادر في تضامن أهليه ومسؤوليه وسياسييه، فصار البحر في لحظات وجهتهم الواحدة، تشخص نحوه كل عيونهم، يصارعون أمواجه العاتية بحثا عن تلك الأجساد الطاهرة لاستعادتها وإيوائها أحضان التراب الذي أحبت.
نسوا خلافاتهم واجتاحوا حدود صراعاتهم بقلب واحد وعقل واحد. ولربما أتاهم صدى صراخ جوليا الطفلة ذات الوجه الملائكي المنير، ربما صعقتهم ابتسامة روان وعريسها باسم، أو صدحت في وجوههم ضحكات الأخوين عباس وفؤاد أو تسللت الى أسماعهم الهمسات الدافئة لطوني وخليل، فخجلوا، على وقع الكارثة، من اختلافهم المستجد على قانون الانتخابات البلدية واستعادة الجنسية في الجلسة النيابية التي أشهرت لها سيوف الطوائف وهيئ لها مسرح المبارزة عشية الفاجعة.
هتفت في ضمائرهم تلك الدموع المستنفرة في عيون اللبنانيين المنتشرين بين الشاطئ وقاعة الشرف وبهو المستشفى وتلك المسمرة أمام الشاشات:
إلام الخلف بينكم إلامَ
وهذي الضجة الكبرى علامَ؟
لكن “دولة” لبنان نجحت في دقائق، فيما أخفقت فيه من سنوات، امام هول هذه الكارثة، وبفضل شهادة أولئك الأقمار، فاستعادت وحدتها. وطفت مؤسساتها على سطح البحث عن أجساد توحد أصحابها في حب لبنان زمنا طويلا قبل أن تخيم الفتنة في مضارب الطوائف والمذاهب وتحيل واحات تعايشها وانسجامها الى خراب يباب.
والعزاء للبنان، كل لبنان أن تلك الأقمار التي تكسرت فوق صفحة الماء وغارت في الأعماق قد تضيء عتمة الأفكار والقلوب ومن يدري؟، قد ترسخ الأجساد المنتشلة من قاع البحر وحدة شتتتها عواصف الأحداث في السنوات الأخيرة.
وقد تكون شهادة هؤلاء اللبنانيين البررة معبرا الى وحدة طال البحث عنها. آنئذ تبرد القلوب اللاهبة لذوي الشهداء ولكل اللبنانيين الذين أصابهم هول هذه الفاجعة من أقصى جنوبهم إلى أقصى شمالهم وليمكن القول: لقد سقطوا فداء للبنان.
Leave a Reply