مريم شهاب
إحدى المسنّات الأميركيات، قدّمت لي كتاباً، طالبة مني أن أقرأه، حتى أعلم رحلة عذاب ومعاناة والدتها الروسيّة حتى وصلت بها إلى الولايات المتحدة. ربما هذه السيّدة اعتقدت بأني من العربيات المرفهات، يملك أبي بئراً من النفط، وهربتُ من حرّ الشرق إلى صقيع الغرب.
الكتاب بعنوان «الوداع ليس للأبد» Goodbye Is Not Forever للكاتبة أيمي جورج، إسم غير معروف لسيّدة روسيّة، أبدعت في تصوير حياة الخراب في ظلّ النظام الشيوعي الدكتاتوري، في ما كان يسمّى الاتحاد السوفياتي، حيث كان يخشى مواطنوها الكلام والبوح بأي كلمة نقد ضد ستالين، الذي كانت له أهم ميزة، وهي الطاقة على تحمّل تبعات الظلم الذي يلحقه بالناس والاستمرار في ذلك يوماً بعد آخر.
كانت الكاتبة طفلة صغيرة عندما جاءت زمرة من البوليس السري واعتقلوا والدها، الذي تم نفيه فيما بعد إلى قفار سيبيريا المتجمدة، لأنه رفض أن يكون مخبراً تحت إمرة مندوب المخابرات حيث يعمل مهندساً، ويقدم تقارير عن رفاقه وأصدقائه وجيرانه.
اضطرت الزوجة للعمل من أجل إعالة أطفالها الثلاثة، في أحد المصانع. في اليوم الأول لم يأت إليها المدير أو المشرف، بل مندوب المخابرات، يطلب منها التجسس على رفاقها. كان وحشاً، تقول عنه، جاءني ثلاث مرات في الأسبوع الأول، عملاق ضخم ذو عينين زرقاوين، ظلّ واقفاً في الأولى، ثم شتمني وانصرف. في المرة الثانية جلس، وفي الثالثة بقيت واقفة لأنه وضع مسدساً على كرسيي، أطلق عليّ سيلاً من الشتائم: حمقاء، كسولة، وامرأة سهلة وعفنة… كلبة شاردة، صرخ في وجهي: اكتبي أنك عميلة. رفضت، فحطّم مزهرية كانت على الحائط وخرج وهو يقول مهدداً: سوف تندمين، سوف نغرقك في النهر، أو نرسلك إلى سيبيريا مثل زوجك. وقلت في نفسي: «الأفضل أن أختار الغرق».
تكتب بعمق طوابير الخبز والأرز، عن العيش بلا كرامة في وطنك… ثم كان الاحتلال النازي، وترحيل الأسرة إلى برلين وإلى عذاب آخر وبؤس أفظع للأم والابنة الكبرى، للعمل بالسخرة في المصانع الألمانية، أما الأخ الأكبر فتم تجنيده في الرايخ الثالث، وأُرسل ليحارب بني وطنه في الإتحاد السوفياتي.
أسلوب الكتابة أشبه بخيط مرئي، يشدّ الكلمات ببعضها بعضاً، وفي ثنايا أحداث الرواية يئن الحجر ويستغيث الحديد من الظلم والبؤس والفقر في ظلال جموح السلطة.
الكتاب فتح جرحاً عميقاً في صدري، أعاد لي ظلم الاحتلال الإسرائيلي لقرى جنوب لبنان، والمعاناة اليومية في الملاجىء والتنقل من مكانٍ لآخر، هرباً من الموت اليومي، والحزن على أحبة قتلوا غدراً وظلماً. تلك المآسي كانت سبباً مباشراً لهجرتي إلى هذه البلاد مثلما فعلت الأم في الرواية. فبعد أن تخلّت عن جنسيتها الروسية، جاءت إلى أميركا وعانت ما عانته لإعالة أولادها، لتأتي الخاتمة السعيدة بقدوم الأب بعد خمسة وثلاثين سنة فراق، ويجتمع الشمل لشهرٍ واحد معه، لم تسمح له السلطات الروسية بالبقاء أكثر من ثلاثين يوماً.
بدون شك، القصة حقيقية، تلامس الروح والقلب. إنها مأساة امرأة من نساء هذا العالم، انتهت مأساتها بنجاح أولادها في بلدٍ غير بلدها. كانت دوماً تعتقد أن وداعها لزوجها في ذلك الصباح المظلم البارد لن يكون للأبد.
لكن هذه المأساة تتكرر اليوم وكل يوم. سلوا المرأة الفلسطينية، المرأة البطلة الصابرة بوجه جبروت وظلم الاحتلال الإسرائيلي. في شهر المرأة. لكِ التكريم أيتها الأم المنزرعة في الأرض المحتلة أو في مخيمات القهر العربية.
Leave a Reply