سنوات طويلة، أكثر عددا من السنين التي عشتها مع أمي، عشتها وإياها. تعلمت فيها منها دورسا كثيرة لاتزال توجه سلوكي ومجرى أفكاري. كنت أمزح معها دائما وأقول لها: من نال مثل حظي في هذه الدنيا؟.تزوجت الابن فربحت الأم!.
كان قدري أن أعيش معها.
بالرغم من وجود والدتي على قيد الحياة، كنت أنا أرى فيها الأم التي أفتقدها، وكانت هي ترى بي الابنة التي لم يزرقها الله بها.
رغم صعوبة الحياة في القرية، وصعوبة الأيام في مناخ غير آمن في جنوب لبنان في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. عشت وحماتي سنوات عديدة، كانت لي فيها المعين والمرشد والقلب الدافئ لتربية أولادي.
كنت أرى وأسمع عن مشاحنات ومناكفات وقصص بين الحموات والكنات، والأسباب العديدة التي تثير الضيق بينهما الى حدود المقاطعة والزعل الدائم واثارة النزاعات والنعرات في العائلة الواحدة والدخول في حرب باردة بين الطرفين. والانطواء على مشاعر سلبية غالبا ما ينجم عنه الكثير من مشاعر الحقد والكره، وإفساد العلاقة بين الزوج وأهله. وفي أحيان كثيرة ونتيجة للجهل، كانت المشاعر الخفية والسكوت عنها بين أفراد العائلة تنكشف بشكل خاطئ أمام الأطفال مما يؤثر سلبيا في تربيتهم وتنشئتهم.
بثقة أقول إنه وبفضل الحجة المرحومة حماتي، تجاوزت كل هذه الخلافات التي قلما كان يخلو بيت منها، لأنه مكتوب على باب الجنة “ما في حماة بتحب كنة”، كما يقال. لكن الذي كنت ألمسه ولازلت أعيش ببركته هو حب المرحومة حماتي، حبها لي ولزوجي وأولادي.
والحقيقة، وبرغم كل الضعف الانساني، كانت يرحمها الله، نبعا صافيا للمحبة للجميع، لأولادها وجيرانها ولكل من تعرفه، ورافدا للحياة والعطاء بكرم وطيبة نفس. لا تحمل غلاً ولا حقدا لأحد، وهذا جعلها صافية النفس والسريرة خالية القلب من طمع الحياة، انعكس كل ذلك إشراقا وبشاشة على محيّاها، وتعلوه دوما ابتسامة شفافة حنونة. وقد أكرمها الله بأولاد بررة أحبوها واحترموها حتى توفاها الله.
ومن حسن الأقدار أنها صحبتنا في هجرتنا الى المغترب الجديد، كانت الخيمة التي تظللنا بحنانها وتضمنا تحت جوانحها في سنوات الغربة. وكنت آتي إليها فتقرأ في عيوني هموما، فتمسها بنظراتها الحانية فأستعيد طمأنينتي فأصبر وأتحمل حزني العميق وأكمل واجبي اتجاه عائلتي.
كان يصدق علينا، أنا وحماتي، وحدة المسار والمصير، عندما كنت أشكو أو أتضايق منها تبتسم وتقول لي: “علاقتنا زواج ماروني ما فيه طلاق”!! فاحتضنها وأسألها المسامحة دوما. وكانت تسامح وتغفر. وأنا الآن أعتذر لله ولها لأي تقصير كان يبدر مني بدون قصد. فالحمد لله كان مساراً مباركاً ومصيراً موفقاً بفضل بركتها وأدعيتها الصالحة، حيث منّ الله علينا بعائلات وأولاد ناجحين متميزين خلقا وأخلاقا.
وأجمل هدية أقدمها لها في عيد الأم، هي أن تنام فخورة ومطمئنة بأن تعبها ودعاؤها وبركتها أتت ثمارها في عائلة كبيرة مترابطة في محبة واحترام.
Leave a Reply