تشهد الساحة المهجرية اليمنية في العالم عموماً، وفي أميركا خصوصاً، حراكاً شعبياً وتفاعلاً سياسياً غير مسبوقين تزامنا مع التحضير في داخل اليمن لبدء الجولة الثالثة من المرحلة الانتقالية عبر الحوار الوطني الذي سيحدد وجه اليمن المستقبلي وطبيعة نظامه، كما يمكن لعملية الحوار هذه أن تكشف عن مدى جدية توجه بقايا النظام الرسمي الحاكم حالياً نحو التغيير الحقيقي أو عن كون عملية الحوار لا تعدو كونها مرحلة لمزيد من كسب الوقت لإمتصاص الزخم الثوري للشارع اليمني في انتظار ترتيب البيت اليمني وفق مصالح وأجندات دول الخليج والخارج. كما ستمكن مرحلة الحوار من الكشف عن حجم الكتل السياسية ودورها في التوازنات التي ستحدد مصير اليمن ومنطقة الخليج العربي لسنوات قادمة.
وقد تمظهر هذا الحراك في تنظيم أغلب الطيف السياسي اليمني من منظمات وجمعيات وأحزاب وأفراد في ميشيغن للعديد من الندوات الحوارية والفكرية والسياسية المتزامنة تاريخياً، وان كان هذا التزامن يوحي بحالة من منافسة مكونات المشهد السياسي اليمني بالمغترب لبعضها البعض فإنه كذلك مؤشر جيّد على بداية حيوية سياسية وانتعاش الوعي داخل الجالية اليمنية وأمر مهم مقارنة بتدني الفعل السياسي الحقيقي لها في الحقب الماضية نتيجة سياسة رسمية تُوَصّفُها كثير من الأحزاب اليمنية بأنها ذات السياسة الإقصائية التي كانت تمارسها السلطة اليمنية السابقة في الداخل والخارج والتي كانت وراء ثورة الشباب في الحادي عشر من فبراير 2011.
الإلتفاف: ثورة لم تقطف الثمرة
تعتبر الثورة الشبابية اليمنية، الى جانب حراك البحرين، اكثر الثورات سلمية ضمن سلسة ثورات الربيع العربي حيث التزم الشارع اليمني المنتفض بالمنهج السلمي أسلوبا في التغيير رغم السياسة القمعية التي واجهته بها السلطات الرسمية، من قتل وحرق وسجن وتنكيل على مدى أشهر الغليان الشعبي، وفي الوقت الذي كانت فيه ثورة الشباب في طريقها الى اسقاط المنظومة الاستبدادية الحاكمة في اليمن تدخلت القوى الخارجية المتنفذة وذات المصالح في المنطقة الى جانب المنظومة الخليجية التي كانت تخشى من قيام دولة مدنية ديمقراطية على حدودها بما يمثله ذلك من خطر تفشي ظاهرة الدمقرطة التي تهدد منظومة الدول العائلية الحاكمة في المنطقة، وكان من نتائج هذا التدخل إجهاض الثورة والإلتفاف عليها قبل أن تبلغ الهدف الذي أعلنته «الشعب يريد إسقاط النظام» الى جانب سعيها لحلّ الحزب الحاكم الذي جثم على مصير البلاد على مدى أكثر من عقود ثلاثة خنق فيها كل أمل في التغيير والإصلاح، أما عنوان الإلتفاف فكان عبر مبادرة خليجية برعاية غربية، قيل إنها ستُمكن اليمنيين من تغيير أوضاع الإستبداد بأسلوب سلمي وهي حجة يرى ثوار اليمن أنها مردودة على اصحابها لأنّ الشارع اليمني رغم الزخم الثوري المرتفع إلتزم بسلمية الأسلوب في كل مراحل تحركاته في كافة ميادين مدن ومحافظات البلاد.
لم تفعل المبادرة الخليجية أكثر من أنها أبقت على ركائز النظام الحاكم ممثلاً بفلوله، أولها نائب الرئيس الذي أصبح رئيسا إثر انتخابات تنافس فيها مع نفسه، وهو ما دفع بقطاع واسع من الشعب للمطالبة برحيله ومحاكمته مثلما حصل في دول «ثورات الربيع» حيث وقع اسقاط الرؤساء وحكوماتهم ونوابهم ومنعت فلولهم من النشاط السياسي، لأن «النائب» إما أنه كان شريكا لرئيسه في القمع وإمّا أنه كان ساكتاً عن الحق ونائبا شكليا لا حول ولا قوة له ، حيث لم يحاول حتى إستنكار ما كان يحصل من استبداد و قمع للحريات ولو بلسانه وهو أضعف الإيمان. واستمر «النائب» شاهدا صامتا على عصر دكتاتورية صالح ولهذا يرى الثوار انه في كلتي الحالتين كان عليه أن يرحل لانه لم يدافع عن شعبه.
ثاني مكافآت مبادرة الخليج لنظام صالح كانت لحزبه الذي اعطته خمسين بالمئة من حكومة المرحلة الانتقالية في حين كان من المفترض ان يُحلَّ أسوة بما تمّ في تونس ومصر وليبيا، حيث وقع حلُّ الاحزاب الحاكمة وأُخرجت من الحياة السياسية فحزب المؤتمر الذي كان يهيمن على كل مفاصل اليمن كان الأداة التي هيمن بها الرئيس المخلوع على مؤسسات الدولة، ورغم تاريخ الدولة الدموي لم يعتذر هذا الحزب لشعبه عن سنوات القمع بل خرجت كوادره وقواعده في مظاهرات تأييدية لصالح ما يعني انهم لم يستوعبوا المرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقة لذلك استمروا في المراهنة على نفس الخيار رغم اجماع أغلب الفعاليات اليمنية والعديد من المنظمات الدولية بأنّ نظام صالح ودولته لم يكونا إلاّ وجهين لدولة الدكتاتورية والفساد نفسها.
ومن المخاطر المحدقة بدولة المستقبل في اليمن هو احتمال انتاج نفس النظام البائس الذي كان سببا في قمع شعب اليمن على مدى ثلاثة وثلاثين عاماً وعودته مرة ثانية ولكن هذه المرة عبرالصناديق الانتخابية، فحصول «حزب المؤتمر» على نصف الحكومة الإنتقالية وفق محاصصة «مبادرة الخليج» يُوفّر له فرصة توظيف ادارة الدولة في خدمة اجندته الانتخابية المقبلة، كما ان شريكه في الحكم سابقا، «حزب الاصلاح»، له انتشار واسع في البيئات التقليدية كالقرى والأرياف عبر الكتاتيب والمدارس الدينية التي يملكها والمنتشرة في كل البلاد، مما قد يمهد للحزبين الشريكين سابقا، والخصمين الآن، أن يعودا لحكم البلاد سوياً عبر حلف جديد تحكمه المصالح الواحدة رغم اختلاف المبادئ والأفكار.
وما يزيد في امكانية حدوث هذه الفرضية هو اختيار العناصر المكونة للجنة الحوار ولجنة الدستور وفقا للتوازنات القديمة وعبر المحاصصة حيث سيكون للمؤتمر النصف اضافة الى الزج بحزب الاصلاح مع المعارضة رغم انه كان جزءا من منظومة الحكم والسلطة؟!.
وقد كانت محاصصة المرحلة الانتقالية سببا في رفض الحراك الجنوبي حضور مؤتمر الحوار الذي كان من المفترض انعقاده في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بسبب هيمنة «المؤتمر» و«الاصلاح» على لجان الحوار مما يعني انهما الأوفر حظا في توجيه اجندته وفق مصالحهم ما يعني أنّهما مَنْ سيحددان طبيعة النظام القادم ومستقبل البلاد.
كما ضربت «المبادرة الخليجية» مبدأ المحاسبة والعدالة الإنتقالية عبر إعطاء الحصانة لرأس النظام وبطانته مع استمرار الحديث عن المحاسبة، فعن أيّ محاسبة تتحدثون يا أولي الألباب بعد حصانة صالح ومكافأة حزبه؟ أيترك الآمر ويلاحق المأمور؟!
على مَنْ قامت الثورة إذاً ياجماعة الخير؟
هواجس الخليج: الصوملة أم الديمقراطية
كان لإسراع المنظومة الخليجية والغربية وتدخلها في ثورة اليمن سببان مهمان هما:
أولاً، الخوف من حدوث فلتان أمني داخل اليمن الذي تنتشر فيه اكثر من ستين مليون قطعة سلاح مما قد يحول البلاد الى صومال آخر يهدد حدود المنظومة الخليجية وامكانية تسرب السلاح الى بلدانها مما قد يثير المجموعات والقبائل المحرومة من مواطني الخليج على اعلان الثورة وتهديد العروش التي كانت تمتص وتبدد أموال بلدانهم في دعة وهدوء دونما محاسب ولا رقيب.
كما أن اضطراب الأمن في اليمن سيكون سببا في تهديد طرق الملاحة البحرية عبر باب المندب وتوقف تدفق البترول والغاز على الغرب مما سيفجر ازمة اقتصادية خانقة للخليجيين المعتمدين على أموال ريع البترول كما ان النقص الذي سيخلفه توقف تدفق النفط سيكون له آثار سلبية على ارتفاع الأسعار واختناق اقتصاديات الغرب التي تعتمد اقتصادياتها وصناعتها على الطاقة المتدفقة من المنطقة العربية.
ثانياً، خوف الدول المملوكة للعائلات من انتشار نظام ديمقراطي على تخوم بلدانهم التي لم تنتج يوما احزاباً أو برلمانات على مدى تاريخها ولم تعرف اي تمثيل شعبي، دول ليس لها من اسم الدولة إلاّ السلطان والحاكم المطلق (دول شمولية)، حيث تتجمع في يد الأمراء كل السلطات الدينية والزمنية. ولذلك فإن جاذبية النظام الديمقراطي الذي قد يقوم في اليمن قد يغري شعوب الخليج بالاقتداء بالجارة القريبة والثورة على حكامهم، ولذلك سارعت المنظومة الخليجية ووضعت كل ثقلها المالي –طبعاً- لتحرك دولاً من أوروبا ومنظمات عالمية لتكون طرفا في مبادرة مثّلت عملية استباقية لوأد الثورة الشبابية باليمن في مهدها، وقد نجحت دول الخليج الى حدّ الآن في خنق «الحلم اليمني» بالديمقراطية، إلاّ إذا كان لشباب الساحات اليمنية رأي آخر في قادم الأيام، فمعهم قد ينبلج صباح جديد وأمل جديد.
الكفاءات اليمنية المُغتربة: لا نبي فـي قومه
تميّز دور المغتربين اليمنيين على مدى السنوات الماضية بشيء من الضعف مقارنة بالدور الذي لعبته جاليات المغترب العربية الأخرى والتي كان لها دور فعال في معارضة حكامها في السنوات السابقة رغم وجودها بالمغترب ثم كانت لها اليد الطولى في توجيه وتحريك ثورات بلدانها اثناء تواجدها بالخارج ثم عودتها لبلدانها لتساهم في مسيرة البناء، فدولة تونس بعد الثورة تقودها شخصيات كانت مغتربة، فالرئيس الحالي وأغلب القيادات السياسية عاشوا في المغترب الفرنسي والبريطاني وكذلك الشأن بالنسبة لثورة ليبيا حيث يقودها سياسيون عادوا من الاغتراب مثل عبدالرحمن الكيب ومحمود جبريل والمقريف وغيرهم، أما مصر فعديد الشخصيات المؤثرة في الساحة المعارضة الآن، والتي قد يكون لها شأن في المستقبل، كانت في الاغتراب هي الأخرى، مثل محمد البرادعي. وكذلك المعارضة السورية الشريفة في المهجر على غرار هيثم مناع.
وإن كان جانب من ضعف دور المغتربين اليمنيين تكوّن نتيجة عوامل ذاتية أي عزوف اغلب زعامات الجالية اليمنية على التحرك ضمن معارضة سياسية واكتفى بعضهم بالتفرج والبعض الآخر بالتطبيل للدكتاتور، فإنّ عوامل أخرى تخرج عن نطاق قدرة المغتربين مثل سياسة التعيين التي يحددها ساسة الداخل والتي لا تخضع للكفاءة بقدر ما تخضع للتحزب والمحسوبية، ورغم حاجة اليمن الى الكوادر من ابنائه بالخارج من تكنوقراط ورجال قانون وتعليم وخبراء الاستراتيجيا والادارة، فإن السياسة الحالية، ورغم الثورة، لا زالت تتبع نهج اقصاء الكوادر اليمنية بالمغترب حيث يتحدث الكثير على الدور الفرنسي في كتابة الدستور اليمني الجديد رغم وجود المئات من الكفاءات اليمنية القادرة على القيام بالمهمة بكفاءة واقتدار، فهل نقول : «لا نبي في قومه».
Leave a Reply